تقرأ بعض الكتابات فتجد أنها لا تقول شيئاً. قد تكون جيدة على المستوى اللغوي، لكنك تخرج منها دون أن تعرف ماذا كانت تقول. لأن هناك فرقاً بين أن تكتب لكي تكتب، وبين أن تكتب لتقول. أن تكتب «لتقول» أي أن تستخدم الكتابة كوسيلة تواصل مع الآخر. أن تكون «مهتماً» بالآخر. أن تريد منه أن يسمعك لأن لديك شيئاً تقوله، ولأن هذا الشيء يؤرقك، ولا بد أن تقوله لكي تستريح، فأنت تكتب لكي تُسمع، أما الكتابة لأجل الكتابة فصاحبها لا يمتلك شيئاً يقوله لك. يريد فقط أن يريك مهارته في الكتابة. هو يستعرض قدراته اللغوية أمامك، لا يهمه أمرك، كل ما يهمه أمره هو. أمر حرفته وصنعته. لسان حاله يقول: أنظر إلي أنا أجيد رصّ الحروف وتشكيل الجمل. فتجده رصّاً جيداً وربما جميلاً، ولكنك تخرج بلا أي أثر منه، فالكلمات البلاغية المفرغة من المعنى مثل الورود الصناعية، لا تنشر عبقاً ولا تترك أثراً. لذلك لا يمكن أن تقول إن معيار قيمة العمل الأدبي هو في «لغته» فقط، كما دافعت لجنة الجائزة العالمية للرواية العربية عن اختياراتها لهذا العام. لم أقرأ أياً من الكتب المختارة بعد. لكن من قرأوا لم يكونوا على قدر كبير من الارتياح. العمل الأدبي ليس تقريراً إنشائياً لنحكم عليه بجودة اللغة (وحتى هذا المعيار تم ضحده من قبل الكثيرين)، هو إنجاز شامل لتجربة إنسانية مؤثرة نقلها الكاتب على الورق. لماذا أريد أن أقرأ كتاباً لا يأبه كاتبه بي. لا يحدثني أنا؟ يريد مني فقط وقتي لأراه ككاتب دون أن يهمه أن يراني كقارئ؟. أنا أقرأ لكي أفهم، ولكي أعرف، ولكي أشعر بأني أفضل، ولكي أستريح من تعب الأيام، ولكي أجد صديقاً يفهمني، أنا أقرأ لكي لا أشعر بأني وحدي، وبأن هذا الكتاب كما قال المثل «خير صديق» لماذا أريد صديقاً مغروراً لا يهمه إلا استعراض عضلاته اللغوية أمام بصري؟ بصري غالٍ، أُفضّل أن أحدق به في السماء وعلى سطح بحر وفي وجه طفل على أن أهدره على كلمات كاتب لم يفهم أن الكلمة قبل أن تكون وسيلة شهرة له هي جسر متأرجح فوق نهر هائج للوصول إليّ.