أوروبا بعد ما أنهت حروبها الكبرى، أول شيء عملته أنها فتحت الحدود وهي مطمئنة، وهي بذلك كمن يبني جسراً ليصل ما بين الأشياء المتداعية من الحرب، وبين ما خلّفته الحروب، جسور لكي تعبر الثقافة والمواصلات والاتصالات وفنون الحضارات، والإنسان الحر، فقط ما تمنعه هذه الجسور هو السلاح، وأدوات الدمار، وما قد يضر بالبيئة أو يحطم القوانين، من ينظر لألمانيا غير الموحدة، والمشطورة لألمانيتين في ظل سور برلين، وينظر لها الآن بعد ربع قرن، وكيف تسيدت أوروبا، واعتلت مكاناً بين الدول العظمى، وأصبحت قوة اقتصادية مرهوبة الجانب دونما أي تجييش أو عسكرة، كما أراد لها الرايخ، ونازية هتلر. وهو درس على الجميع أن يستوعبه، وفي مقدمتهم إيران، من الانهيارات الكبيرة، ومن الجمود الطويل، ومن العزلة المصطنعة، ومن خنق حرية الناس، والتضييق عليهم، والاكتفاء بإطعامهم شعارات هوائية، تنفخ البطون ولا تسمن أو تغني من جوع، فالشعوب التي نهضت من سبات الشعارات، وجدت ضرر المصانع المدمرة للحياة، وجدت الفساد، وبيع المقدرات، وسرقة التراث والتاريخ، وجدت الاعتداء على الطبيعة، والشرور المهددة للبيئة، اكتشف الناس أن ما كان يصرفه النظام على الأسلحة والتسليح، وبناء الغواصات والبوارج، ودسائس السياسة، ومهرجانات البلاغة، كان بالمليارات، ولا كان حصداً ولا كان الشعار شعراً، ولا شعيراً، فقد بيع الحديد في غفلة بدراهم بخسة، كقطع فاسدة أو خردة تالفة، وأن أبناء الشهداء والمدافعين عن الوطن في الحروب الخاسرة، لا يقدرون اليوم على الانتظام في المدارس، وأن نياشين الأجداد، لا تطعم الحفيد كسرة خبز أو تجبر كسراً في الضلع. ثمة لعبة جميلة لعبتها اليابان الخاسرة للحرب مع الاتحاد السوفييتي يوم كان في حجمه وبحجمه، صبرت اليابان على جرحها، وصبرت على جزرها الـ«كوريل»، وصبرت على تلويح قادة الكرملين بالجيش الأحمر، في كل حين، وفي كل نشوة، غير أن اليابان نهضت من رماد الحرب، واشتغلت على تغيير صورتها عند الشعوب، واتجهت للعلم والتصنيع السلمي والاهتمام بالإنسان، اليوم تعملقت اليابان، وتقزم الدب الروسي، وجاء يطلب من اليابان عملة خضراء لكي يطعم نفسه، ويلملم بقايا الفساد، والتسابق المسلح، ودعم الشعوب الثائرة، فجزر الـ«كوريل» لا نبت ولا زرع فيها، وهي لا تساوي اللقمة التي تسد الرمق، ولا يمكن أن تزيد من مساحة روسيا شيئاً، وافقت اليابان، ليس لأن الدب الروسي جوعان، ولكن لأن الجزر غالية، ولعبة الحضارة أقوى من الحرب!