كدت أتصور أن التعليق على المباريات ليس علماً، مما أسمع وأشاهد، فلا يمكن أن نختزل التعليق في هذا الصراخ والتصنع والمبالغ فيه، والذي أسقط من الذاكرة رموزاً وجعل من آخرين مجرد أدوات للتقليد وترديد عبارات باهتة لا تصل إلى القلب لأنها لم تخرج من القلب. ولعلنا لهذا نسمع أصوات القدامى من المعلقين، مثل أكرم صالح وغيره، وكأننا نسمع أصوات مطربين قدامى، مثل أم كلثوم وعبد الوهاب، وباتت المقارنة بين المعلقين الحاليين، والقدامى، كالمقارنة بين الطرب الأصيل، وذلك الشبابي الذي نسمعه هذه الأيام، وهو أيضاً صخب في صخب، وحركات أكثر من الكلمات. التعليق الرياضي علم أصيل، لكن مع الأسف عندما تحاول تطبيق أساسيات هذا العلم على الكثير من المعلقين الآن، تجدهم في وادٍ والعلم في وادٍ آخر، فلا هم يحسنون تغيير سرعة وقوة الصوت أثناء التعليق تبعاً لمجريات المباراة، ولا هم يوزعون جهدهم على المباراة وإن حاولوا إبعاد الملل عن أجواء الأمسية، فهم يفعلون ذلك بفظاظة، وتكلف ولا يجيدون استخدام المعلومة، وإن استخدموها ففي غير موضعها أو يمنون بها على المشاهد والمستمع، وهم لا يعلمون أن كل المشاهدين لديهم ما يفوق المعلقين من معلومات، ناهيك عن بعدهم الشديد عن الحيادية ودخولهم فيما لا يعنيهم، لدرجة أن البعض يتحدثون في الدين ويتحولون إلى مفتين، ولا يدرون أنهم بذلك يبتعدون شيئاً فشيئاً عن روادهم، وحتى «خفة الدم» التي يعولون عليها تختفي مع الأيام، ويستبدلونها بثقل دم متناهٍ، وهم لا يدرون. أما عن الآفة الكبرى التي سقط فيها البعض فهي التقليد، حتى لم نعد ندري مَن يقلد مَن، فالكل يعتمدون نبرة واحدة وأسلوباً واحداً، هو الصراخ حتى والكرة في يد الحارس، والكثير منهم ليسوا محللين ولا نقاداً ولا فنيين، وبالتالي ليس من حقهم أن ينصبوا أنفسهم أوصياء على أطراف اللعبة، ولعلهم لذلك يصبحون في مواقف صعبة للغاية، حين يتوقعون فوز هذا وإخفاق ذاك، وسرعان ما تأتي الرياح بما لا يشتهون، لكنهم أيضاً يتحولون، فقد اعتادوا ذلك، ولا يأبهون به لأنهم أصلاً لا يهتمون.. إنهم في صراع تصوروه ليثبت كل منهم أنه الأول، فلم يعد بينهم أول.. باتوا نسخاً مكررة ومشوهة.. حتى ما لديهم من معلومات.. تجاوزه الزمن لدى كثيرين.. لا رغبة لديهم في تثقيف أنفسهم، ولا في الوقوف على آخر مستجدات هذا العلم وتطوير أنفسهم، فأصبح الكثيرون منهم، تلك الأبواق المنفرة التي تدفع البعض لمشاهدة المباريات دون صوت. أعتب كثيراً على أسماء كان لها حضورها لدى الجمهور قبل أن تفقد أسهمها شيئاً فشيئاً، وأتساءل: ألا يدري أولئك أنهم ابتعدوا.. ألا يدرون أنهم باتوا منفرين.. ألا يجلسون مع الناس بعد المباريات، إلا إذا كانوا فقط يجلسون مع من يجاملونهم، والأّم ألا يقرؤون، ولو قرؤوا لعرفوا أنهم أبعد ما يكونون عن التعليق. كلمة أخيرة: ليس من صالحك أبداً أن يكون رأسمالك في مهنتك هو صوتك.. الصوت عنوان للداخل، ولو كان هو كل ما لديك إذن لا شيء لديك.