نحاسب المسؤول والمدير والأب، وكل سُلطة نجدها حال وعينا على الدنيا. نحتج على التسلّط، ونقاوم الإرادة الراغبة في تقويض إرادتنا والتأثير على توجهنا وتشكيل حياتنا وفق رؤيتها. ونظن بأننا مناضلون مخلصون، وأفراد بررة لفرديتنا المتفردة، حتى نتحصل على سُلطة تخصنا ولو بأدنى درجة، فنبدأ في ممارسة ما كنا من قبل ننتقده ونرفضه، نمارس على غيرنا كل المناهج والوسائل، التي مورست علينا ورأيناها تدخلاً سافراً في إرادتنا الحرة وتسلطاً مجرداً من أي غاية سوى فرض السيطرة، ولكننا الآن، من موقعنا الجديد، لا نرى إلا أننا نمارس دورنا الذي ينبغي على الآخرين الخضوع له، وليس فقط احترامه. كل إنسان مجبول في فطرته على حب السُلطة، ولا ينجو من هذا الهوى المقيت إلا المتعففين. والاعتراف بهذه الحقيقة أولى الخطوات نحو التعفف. التعفف عن الكبرياء والتكبر، عن امتلاء النفس بالذات. وهو امتلاء لا يأتي فجأه، فأنت لا تولد ممتلئاً بذاتك، لكنها قطرات صغيرة لا تحس بها ولا تثير انتباهك حتى تجلس في يوم على عرش ما ولو كان عبارة عن كرسي مهترئ على مدخل باب عمارة مهجورة. فتجد ذاتك وقد انتفخت بك على غفلة منك، فقط صرت اليوم مسؤولاً، وعليك أن تبسط سلطتك وفق رؤيتك. ستظل دوماً تظن نفسك طيباً، متواضعاً، حنوناً، عطوفاً، وستقول إنك حين ستصير أبا ستكون أكثر رأفة، وحين تصير مديراً ستكون أكثر تفهماً، ولو صرت حاكماً ستكون أكثر عدالة. وما إن تصير أياً من ذلك حتى تستحيل إلى كل ما كنت ترفضه لكنك هذه المرة ستقبله، لأنه سيكون صادراً من ذاتك أنت، ذاتك التي كنت تعرف، ولن تعرف، من عتمة موقعك، أنها لم تعد هي. النقد الذاتي، مفتاح النجاة من أفخاخ كثيرة، أهمها فخ السلطة هذا. حين تتذكر دوماً أنك فقط واحد، وأنك بعد قليل ستحتاج لأن تتشارك الغداء مع أحد يتقاسم معك حاسة الجوع. أنك إنسان ضعيف مهما قويت، وأن امتلاءك الحقيقي يأتي من روحك، وهي موجودة في منطقة أبعد من «الذات»، عليك دوماً أن تتحسس وجودها كل صباح، وتطمئن على عافيتها بالابتسام والانحناء والالتفات لعصفور على غصن شجرة في زحمة شارع. فالروح يغذيها الجمال، وروح جميلة مُطهّر فعّال للذات.