عندما تكون في المستشفى، بدءاً من البوابة الزجاجية الآلية، وانتهاء إلى السرير الأبيض ثم الشرشف القطني المغسول برائحة الدواء تكون على حد سواء، فأنت المريض الصحيح، وأنت المعتل بخيال يدهمك كأنه النيزك الشارد من عقد الكواكب السيارة. الناس في الممرات، الأطباء الممرضون، عربات نقل الأدوية، منظفو الغرف بالكمامات البيضاء كأنهم يطفئون حريقاً ما، كأنهم يطاردون حشرة ما، كأنهم يمارسون فعل الخيرات في ساعة صمت المريض المستلقي على السرير، عيناه شاخصتان تبحثان عن إجابة ما، عن سر هذا السديم الدوائي المهيب، و«رطنة» الأطباء الذين يبحلقون في وجهه بعيون تمتلئ بالغموض والخوف الرهيب، الذي يلف جسد من سجى على سرير غير سريره الذي كان يطفئ أنواره متى ما شاء، وينام من دون رعشة الأرض من تحت أقدام الزائرين والمعالجين والنابشين عن موقع لثقب إبرة في جسده المتهالك. في المستشفى حكايات عن الموت والأمراض العضال، عن المتوفى بالأمس، والذي صرخ قبل أن يرحل، ماداً يده إلى السماء يريد رشفة ماء تبلل شفتيه ولم يجد لأن الأقارب نسوا موعد الزيارة. في المستشفى.. شيء ما يستولى على الروح، كتلة ألم تتورم، وتبدو مثل قرحة في الخاصرة وصوت داخلي ينادي للحياة هل من مجيء، هل من عودة إلى تلك النفحات الغريزية التي تبعث على الأمل وتدفع بالخطوات نحو واحات واسعة دون الالتفاف إلى النهايات السوداوية. في المستشفى.. تتذكر أشياء وأصدقاء وحارات وأزقة وقرية باتت يتيمة تفوح على أغصان لوزها الحمامات اليائسة وساحل بحري كان بالأمس يعج برائحة الخشب، واليوم يغزوه الفراغ المدلهم، وأشياء صغيرة تتدحرج عند الرأس، تتحرك بعد الكرة الأرضية، إلى حيث الزمن الذي تزخرف بصفاء عيون الطفولة. في المستشفى تستدعيه طفولة مهيضة تقف عند حافة النهار تطل قليلاً من خلال نافذة زجاجية في الغرفة المدوية بأصوات الأجهزة الطبية تنظر إلى «اللامتناهي»، هناك بث أنت تسكن، وتحاول أن تغادر مكانك أو بالأحرى تتمنى أن تكون خارج هذه الغرفة لتستعيد مشاغباتك، هرولاتك، عصيانك، وقوفك عند شاطئ البحر عندما كان النورس يبحث عن سمكاته الصغيرة في أحشاء البحر، وأنت الفقاعات التي قذفتها أحجارك الصغيرة.