كنا في مقعد واحد، في صف يزدحم بعشرين طالباً أو يزيد، وفي يوم كهذا، على أعتاب سنة قديمة تنسلخ من عمرنا، وسنة جديدة تطل برأسها. سألنا أستاذ اللغة العربية عن أمنياتنا، وكان موضوع إنشاء، أسهب الجميع في طرح أمنياتهم، ورغم ركاكة اللغة التي يكتبها بعضنا، فإن هدفنا أن نملأ الصفحتين اللتين طلبهما أستاذ اللغة العربية. وفي الحصة التالية طلب الأستاذ أن يخرج كل طالب كراسة الإنشاء ويطرح ما كتبه شفاهة على الطلاب.. الآن لا أتذكر كل أولئك الطلبة، وما كتبوه، إلا أن الأربعة الذين يشتركون في مقعدي، كانت أمنياتهم كالتالي: الأول: تمنى أن يصبح طياراً ولا أدري... لماذا كانت هذه الأمنية تلح عليه وعلى كثير من الطلبة؟ ورغم أنه يحمل في نهاية كل عام دراسي دائرتين بلون أحمر الشفاه في الرياضيات والعلوم، فإنه كان يصر على أن يصبح طياراً وحتى بعد انتهاء حصة التعبير بزمن طويل، حاولنا أن نثنيه عن حلمه الكبير هذا، من باب المشاكسة الصبيانية، لأن مهنة الطيار تتطلب مواصفات خاصة لا توجد فيه، وكنا لا نعلم شروطها ولا مواصفاتها، لكننا أيقنا أنه لن يصبح طياراً، فالطيار ليس مطلوباً منه ألاّ يخاف من الظلمة أو يتبجح بالكلمات الإنجليزية التي يحفظها أكثر منا، كما كان يفعل صاحبنا، وصارت هذه الأمنية تكبر فيه يوماً بعد يوم وسنة بعد سنة. الثاني: تمنى أن يصبح طبيباً، ساعتها ضحكنا وقلنا: «ما يظهر من اليهودي نبي»! وإن كان افتكر أن أباه يعرف الحجامة والختان وكتابة «المحو» ونعت الأدوية للمعلولين، فهذا لا يكفي لأن يكون الابن طبيباً، فالطبيب كما كنا نرى يحتاج إلى نظارة بيضاء سميكة، وأن يكون أبيض نظيفاً، وصاحبنا أغبر وهو أقرب لسائقي الباصات منه إلى الطبيب! استطعنا أن نلينه بعض الشيء وخف وهج الأمنية، وحين ضحكنا، أصر وبعناد على أن يصبح طبيباً، قلنا له: «وهل تعتقد أن المواطنين سيصدقونك ويتعالجون عندك ويتركون أطباء «مستشفى كندي»؟ الثالث: كنت أنا.. تمنيت أن أكون مدرساً للتاريخ أو ممثلاً مسرحياً أو مخرجاً سينمائياً، كنت أعتقد أنني أكثر عقلانية منهم، وأكثر وعياً لما أريد، وأن بين مدرس التاريخ والممثل المسرحي والمخرج السينمائي خيطاً يكاد يرى، إلا أن الجميع أصروا أن لا رابط بينهم، حتى مدرس اللغة العربية، وطلبوا مني مهنة تليق بمواطن.. أحسست أنهم وطئوا على حلمي بحذاء أسود ثقيل.. ونكمل غداً..