لو أنك دخلت غرفة نومك وأشعلت الضوء فهذا لا يعني أنك تفهم في علم الكهرباء، هناك أشياء كثيرة في حياتنا نعيشها ونمارسها ونسعد بها، وهي ضرورة ملحة لنا ومن دونها لا تستقيم حياتنا، وذلك مثل الفكر، فنحن نفكر ونقرأ ونكتب ونتعايش مع الآخر، ولكن كل هذا لا يعني أننا أصبحنا نلم بكل الأفكار. ومن يتأمل الكون الفسيح يشعر أنه ذرة من ذراته، وأنه جزء من هذا الكون، لكنه لا يحيط بكل شؤونه وشجونه، كما أنه هو جسم الإنسان، فاليد مثلاً جزء من جسد الإنسان، وهي مكملة لبقية الأعضاء، ولكن هذه اليد لا تعرف مم تتكون الأجزاء الأخرى وطريقة عملها؟ فالوعي الحقيقي لدى الإنسان هو فهمه أنه يجهل الحقيقة، وبواسطة هذا الوعي يستطيع الإنسان أن يرفع الأسئلة. وكلما اتسعت حدقة الأسئلة كلمة ازدادت الحقيقة نوراً، وكلما كبر حجم الوعي، وبالتالي يستطيع أن يفهم العالم، وفهم العالم يساعد الإنسان على التكيف مع الآخر من دون إحساس بالضنك والضيق، فعندما نقتنع أننا جزء من هذا العالم يصبح لدينا الرغبة الملحة في الاقتراب من الآخر والإحساس بضرورة إكمال الناقص من وعينا بالالتحام مع الآخر بحميمة الفطرة ودواعي السلوك الوجودي. المشكلة التي يعانيها بعض الناس هي الإحساس بأن الانفصال هو استقلال وهذه قمة الذروة لرغباتهم وعلى العكس من ذلك تماماً أن السعي إلى الانفصال هو عبودية وانتماء إلى ذات مخادعة ترمي إلى نفخ البالون الداخلي حتى ينفجر وينتهي الإنسان إلى العدم. فلا يسعد الإنسان ولا يشعر بالاستقرار الداخلي إلا بتحييد «الأنا» وإقصائها تماماً من دائرة التواصل مع الآخر، وعندما يفرّغ الداخل من منغصات «الأنا» وتشعباتها وتوترها فإن الإناء الفاضي يصبح مهيئاً للامتلاء بالمياه العذبة والماء العذب هو فكر الآخر، هو اللون المغاير الذي يعطي للونك بريقاً ويبرزه ويجعل له قيمة، أما الاكتفاء بما تمليه «الأنا» من تعليمات فجة والاعتقاد أننا امتلكنا الحقيقة فذلك طريق إلى النهايات المفجعة، والعالم يشهد اليوم هذه القناعة التي أوصلته إلى الحروب المدمرة والغثيان الاجتماعي.