الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لافانفارلو.. بودلير سارداً

لافانفارلو.. بودلير سارداً
21 ديسمبر 2016 19:52
ترجمة وتقديم شاكر نوري تحتلُّ رواية الشَّاعر الفرنسي الكبير شارل بودلير (لافانفارلو) مكانةً مهمَّةً بين أعماله، لأسبابٍ متعدِّدة: أوَّلاً لأنها نصٌّ نثريٌّ، بينما بقيَّة أعماله شعريَّة، ثانياً لأنها قصَّةٌ طويلةٌ أقرب إلى الرِّواية ظهرت العام 1847، وهي اللَّحظة التي اختارها الشَّاعر لكتابة هذا النَّصِّ وهو في السَّادسة والعشرين من عمره، إلا أن الشَّاعر بعد أن نشر أعماله الشِّعريَّة الأساسيَّة، أهمل هذا النَّصَّ ولم يعره الانتباه اللَّازم، بل ولم يذكره سوى ثلاث مرَّاتٍ في مراسلاته، ومن ثمَّ نسيه كليًّاً بعد العام 1857، ولم يسجِّله في قائمة أعماله في أواخر أيَّام حياته. ومهما يكن من أمر، فإنَّ (لافانفارلو) يُعتبر النَّصَّ القصصيَّ الوحيد الذي كتبه بودلير، ولم يلقَ هذا النصُّ التَّرحيب اللائق لدى المجلَّات أو دور النَّشر الفرنسيَّة في حينها، فقد رفضت مجلَّة (باريس) العريقة آنذاك نشرها، لكن النَّصَّ صدر للمرَّة الأولى العام 1847 على صفحات مجلَّة (جمعيَّة الأدباء). لم يكن بودلير يميل إلى كتابة النَّثر، لذلك لم يكتب سوى هذا النَّصِّ المغاير لأشعاره النَّثريَّة. وتكتسب الرِّواية أهمِّيَّةً تاريخيَّةً في مجمل أعمال هذا المبدع الكبير، ففي شخصيَّة صموئيل كريمير نتعرَّف إلى ملامح سيرته الذَّاتيَّة، فهو شاعرٌ شابٌّ لامعٌ لكنه كسولٌ وخامل، عثر على حبِّه الأوَّل أيَّام كان فتىً... تلك الفتاة الصَّغيرة التي أصبحت الآن امرأةً متزوِّجة، ولكي تحافظ على زوجها، لا تحاول أن تطلب من عشيقها القديم أيَّ التزام. وقد صوَّر الكاتب بروحٍ فكاهيَّةٍ ساخرةٍ الحياة البوهيميَّة. وأتبع هذه الرِّواية بنصائح للأدباء الشَّباب، هي عبارة عن نصٍّ روحيٍّ يعطي فيه نصائحه حول ممارسة الكتابة. لا يوجد مؤلِّف في رواية (لافانفارلو)، وهذا يجسِّد فكرة العجز عن الإبداع التي يطرحها بودلير، ويوضِّح التَّأثيرات الأدبيَّة في شخصيَّته من خلال هذا النَّص، وخاصَّةً السَّيكولوجيَّة التي طرحها كتَّابٌ آخرون حول موضوع العجز، أمثال بلزاك. والسُّؤال الذي طرحه النُّقَّاد بقوَّة: لماذا أهمل الشَّاعر هذا النَّصَّ بعد العام 1857؟ هل كان ثمَّة ما يعيق كتابة الشِّعر آنذاك، بحيث انتقل إلى النَّثر؟ ولماذا كتب بودلير هذا النَّصَّ وهو يطرح نفسه كشاعر؟ من المعروف أنَّ النَّصَّ السَّرديَّ قادرٌ على التَّحليل والتَّفكير أكثر من القصيدة. وهو لم يكتب أيَّ نصٍّ نثريٍّ بعد ذلك، فيما عدا كتاباته عن الفن. وربَّما نتساءل: هل كان شعره أكثر رفعةً من هذا النَّص؟ كان بودلير في حقيقة الأمر متردِّداً بين الشِّعر والنَّثر... هنا مقتطف من نص الرواية. كان صموئيل كريمير يوقِّع بعض كتاباته الرُّومانسيَّة المجنونة باسم مانيولا دي مونتيفيردي في زمن الرُّومانسيَّة الجميل، وصموئيل هذا ثمرة زواجٍ متناقضٍ بين رجلٍ ألمانيٍّ شاحب اللَّون وفتاةٍ تشيليَّةٍ سمراء... إضافة إلى هذا الأصل المزدوج، يتمتَّع بثقافةٍ فرنسيَّةٍ وحضارةٍ أدبيَّة. ولكي لا يُصاب القارئ بالدَّهشة إزاء هذه الشَّخصيَّة، لا بدَّ من الإشارة إلى هذا الوصف، لكي تشعر بالرِّضا والقناعة وأنت تكتشف تعقيداتها الغريبة. يتمتَّع صموئيل بجبهةٍ صافيةٍ كما النُّبلاء، وعينين برَّاقتين مثل قطرات القهوة، أنفه يشي بأنه شخصٌ مشاكسٌ ومرح، شفتاه جريئتان ومثيرتان، ذقنه مربَّعٌ وطاغٍ، وشعر رأسه مشعَّثٌ بغرورٍ يوحي بأنه مستوحى من إحدى لوحات فرانسيسكو سلفاتي، وهو في الوقت نفسه كسولٌ جدًّا، وطَموحٌ بائس، ومشهورٌ تعيس، لأنه لم يمتلك أفكاراً مكتملةً طوال حياته... تتسلَّل غيوم الكسل إلى الشَّمس السَّاطعة في داخله دون توقُّفٍ من أجل حجبها، وتلتهم النِّصف العبقريَّ الذي منحته إيَّاه السَّماء. كان صموئيل، من بين جميع الرِّجال ومتوسِّطي كبار القوم - كما أصنِّفهم من خلال معرفتي بهم في هذه الحياة الباريسيَّة الرَّهيبة- صاحب أكثر الأعمال العظيمة الفاشلة دون منازع... كائنٌ خياليٌّ يلمع الشِّعر في شخصيَّته أكثر ممَّا يلمع في أعماله، ويبدو لي في السَّاعة الواحدة صباحاً وكأنه إله الكسل، بين وميض نار الفحم المشتعلة في الموقد ودقَّات السَّاعة الجداريَّة، أو كأنه إلهٌ عصريٌّ يجمع بين الذَّكر والأنثى في حجم كسله الكبير وتضخُّمه الملحمي. كيف يمكن توضيح ذلك لكم وفهم تلك الطَّبيعة الظَّلاميَّة المشوبة ببريق ألوانٍ فاقعة؟ صموئيل طبيعةٌ خاملةٌ ومقدامةٌ في آنٍ واحد، خصبةٌ بتصاميمَ صعبة، وبإجهاضاتٍ تبعث على الضَّحك أيضاً، روحيَّته المليئة بالتَّناقضات تكتسي في أغلب الأوقات أبعاد السَّذاجة، هو صاحب خيالٍ واسعٍ لا يُضاهى في اتِّساعه من حيث الإحساس بالوحدة والعزلة والكسل المطلق. من بين عيوب صموئيل الطَّبيعيَّة أنه يعتبر نفسه متساوياً مع الأشخاص الذين يُكنُّ لهم إعجاباً، فبعد أن ينتهي من قراءةٍ شغوفةٍ لكتابٍ جميلٍ يقول خاتماً بعفويَّةٍ وبشكلٍ لا إرادي: (كتابةٌ جميلةٌ كما لو أنني كتبتُها)، فيصبح الكتاب بالنِّسبة إليه على بعد خطوةٍ فقط من ذاته. هذا النَّوع من البشر هو السَّائد في عالمنا المعاصر أكثر مما نتصوَّر، تعجُّ بهم الشَّوارع والمتنزَّهات والحانات والمقاهي، وجميع منافي التَّسكُّع... يصفون نموذجهم الجديد بأفضل ما يكون، وغالباً إلى درجةٍ يتخيَّلون فيها أنهم هم من ابتكروا هذا النموذج. وها هم الآن يفكِّكون بصعوبةٍ جَفر* الصَّفحات الرُّوحانيَّة والغامضة التي كتبها كلٌّ من الفيلسوفين أفلاطون وفرفوريوس، وغداً سيعجبون بالرِّوائيِّ كريبليون الابن الذي عبَّر عن الطَّبائع الفرنسيَّة المعروفة بالتَّقلُّبات. أمس كانوا يتكلمون مع جيروم كاردان بطريقةٍ عاديَّةٍ ودون تكلُّف، وها هم الآن يلعبون مع ستيرن في الوقت الذي يتمرَّغون مع رابيليه في شراهة اللَّغو الهائلة والإغراق فيها. إنهم سعداء، وفرحون بكلِّ تلك التَّحوُّلات، حيث لا يعترضون على العباقرة الذين سبقوهم في تقدير المستقبل على الإطلاق. قولٌ سفيه، ساذجٌ ومحترمٌ في الوقت نفسه... هكذا كان صموئيل المسكين. وفي تحليلٍ آخرَ لشخصيَّة صموئيل، فهو رجلٌ نزيهٌ بطبعه، لكنه في بعض الأحيان، يتحوَّل إلى وغدٍ ونذلٍ نوعًا ما، وبما أنه ممثِّلٌ بطبيعته، يلعب أدواراً تراجيديَّةً لا مثيل لها أمام نفسه وبين الجدران، يصحُّ وصفها بالكوميديا المأساويَّة، يُظهر بهجته حين يشعر بمداعبة الفرح، ينفجر من الضَّحك ويصدر قهقهاتٍ عالية... وحين تنساب قطرة دمعٍ من عينيه عند استعادة بعض الذِّكريات، يسارع إلى المرآة ليرى نفسه وهو يبكي. وعندما تقوم فتاةٌ ما من فرط غيرتها العنيفة والسَّاذجة، بخدشه بإبرةٍ أو مدية، فإنَّ صموئيل يتباهى بأنها كانت ضربةً بسكِّين، وعندما يقتضي عليه ردُّ دين مبلغٍ بسيط، نحو عشرين ألف فرنك مثلاً، يقول جاهراً بسرور: «كم هو محزنٌ وبائسٌ مصير رجلٍ عبقريٍّ مُنهَكٍ بمليون فرنك من الدُّيون!». بالمناسبة، لا تعتقدوا أنه عاجز عن معرفة الأحاسيس الحقيقيَّة، وأنَّ العاطفة لم تعرف على قلبه سبيلاً ولم تلامس إلا جلده فقط... لا، لقد سبق له وأن أقدم على بيع قميصه من أجل رجلٍ عرفه للتَّو، وبسرعةٍ عقد معه صداقةً حميمةً بمجرَّد أن رأى جبهته ويديه. كانت له تأمُّلاتٌ روحانيَّةٌ كسولةٌ خاصَّةٌ بالطَّبع الألماني... يمتلك طباع أمِّه في ما يخصُّ الجانب العاطفيَّ الذي يتميَّز بالتَّقلُّب المفاجئ. بينما في الأمور العمليَّة الأخرى، كانت له ممارساتٌ فرنسيَّةٌ تفيض بالغرور والابتذال. لقد خاض معركة تحدٍّ مع كاتبٍ أو فنَّانٍ توفِّي منذ قرنين وغلبه. وبقدر ما كان ناسكاً بجنون، كان كذلك ملحداً بإمعان، يشعرك بأنه يشخِّص كلَّ الفنَّانين الذين درسهم وجميع الكتب التي قرأها، لكن على الرَّغم من موهبته الخارقة في التَّمثيل، بقي متعمِّقاً في أصالته. كان دائماً ذلك الرَّجل اللَّطيف، والفانتازي، والكسول، والرَّهيب، والعالم، والجاهل، وذا الهندام السَّيِّئ، وصموئيل كريمير المتأنِّق حيناً، والرُّومانسي مانيولا دي مونتفيردي حيناً آخر... يبدي شغفه لصديقٍ كما يبديه لامرأة، ويبدي حبًّاً لامرأةٍ كما لو كانت صديقاً. يمتلك منطق كل الأحاسيس الطَّيِّبة وعلم الحيل والدَّهاء، لكنه مع ذلك لم يتمكَّن من تحقيق أيِّ نجاحٍ يُذكر، لأنه كان يؤمن كثيراً بوجود المستحيل. وهذا ليس بالشَّيء المدهش، فهو في حالة تصوُّرٍ وإدراكٍ للمستحيل على الدَّوام. ذات مساء، تولَّدتْ لدى صموئيل فكرة الخروج من البيت، كان الطَّقس جميلاً ومعطَّراً. وقد تمتَّع بكلِّ ما يقتضيه حبُّه الطَّبيعيُّ للتَّطرُّف، عادات الانزواء والشُّرود العنيفة والطَّويلة، فبقي وفيًّاً للبيت منذ زمنٍ طويل. طبيعته المهملة التي ورثها عن أمِّه وكسله الذي ورثه من المستعمرات الفرنسيَّة القابعة وراء البحار، والذي يسري في عروقه، حجبا عنه المعاناة من فوضى غرفته، بما فيها ملابسه وخصلات شَعره المتَّسخة والمجعَّدة. كان يمشِّط شَعره ثمَّ يغتسل، ويتمكَّن من العثور على بذلته في بضع دقائقَ ومعها رباطة الجأش... تلك الصِّفات يتحلَّى بها فقط أولئك الذين يعتبرون الأناقة عادةً يوميَّة، ومن ثمَّ يهرع إلى فتح النَّافذة، فينتشر يومٌ ربيعيٌّ دافئٌ وذهبيٌّ في مكتبه المغبر، فيبدي صموئيل إعجابه بفصل الرَّبيع الذي جاء سريعاً دون إنذارٍ مسبقٍ في أيَّام معدودة، فيغمر الهواء الدَّافئ والمعطَّر منخريه ليصعد جزءٌ منه إلى دماغه، فيملأه بالأحلام والرَّغبات... أمَّا الجزء الآخر من الهواء، فيحرِّك قلبه ومعدته وكبده بكلِّ فجور. نفخ بحزمٍ على شمعتيه، إحداهما كانت لا تزال تخفق على مجلِّد كتابٍ لسويدنبرغ، والأخرى تنتهي على أحد الكتب المخجلة التي لا يستفيد منها إلا من له روحٌ مهووسةٌ دون حدود. كان صموئيل في أوج وحدته، وسط ركام الورق وزحمة أحلامه، يلمح مراراً شكلاً وملامحَ لشخصٍ أحبَّه في الرِّيف، يتجوَّل في ممرَّات حديقة اللُّوكسمبورغ، في ذلك العمر الذي نعرف فيه حالة الحب. على الرَّغم من ملامحها، تبدو ناضجة، وبدينة، بسبب الزَّمن، لكنها في الوقت نفسه على قدرٍ كبيرٍ من الرَّشاقة العالية واحتشام المرأة الشَّريفة، تلمح في أعماق عينيها حلم الفتاة الشَّابَّة النَّديَّ الذي لا يزال يلمع بين الفينة والأخرى، عادةً ما كانت تتجوَّل ذهاباً وإياباً برفقة خادمةٍ أنيقةٍ نوعاً ما، يبدو من ملامح وجهها وتصرُّفاتها أنها ليست مجرَّد خادمة، بل حافظة سرِّها ومرافقتها الشَّخصيَّة. يبدو أنها تبحث عن أماكنَ مهجورةٍ، حيث تجلس بحزنٍ في وضعيَّةٍ توحي بأنها أرملةٌ، تحمل في يدها الشَّاردة كتاباً لا تقرأه في أحيانٍ كثيرة. .......................................هوامش: * الجفر: الشيفرة، وكلمة شيفرة أعجمية (cipher) مشتقة من الجفر أو الصفر العربيتين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©