الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هبات الكتابة.. «هِبَةُ النّشوة»

هبات الكتابة.. «هِبَةُ النّشوة»
21 ديسمبر 2016 19:50
ترجمة ــ المهدي أخريف اتخذ رودريغيز من الشعر ممارسة معرفية شكلت ضمنها أعماله مسيرة متضافرة وبناءً مكثّفاً وجدلياً لمسارٍ شعري مطبوع بالشكوك والتناقضات والتجريب والتحولات على مختلف مستويات التعبير لويس خامبرينا كلاوديو رودريغيز (مدريد 1934ـ 1999) من أهم شعراء جيل الخمسينيات الإسبان إلى جانب بالنتي، غامونيدا، أنخيل غونزاليس، وآخرين... لم ينشر في حياته الشعرية الطويلة نسبياً سوى خمسة دواوين هي: هبة النشوة: 1953. تعازيم: 1958. تواطؤ وإدانة: 1965. الاحتفال الطائر: 1976. أسطورة بالتقريب: 1991. تُظهر سنوات الإصدار وجود فوارق زمنية غير قصيرة بين عمل وآخر وصلت إلى 15 سنة بين العمل الرابع والعمل الأخير. قد يكون مصدر هذا التباعد وما يضمره من فترات صمت طويلة عائداً إلى الطريق الشعري الصعب الذي اختاره الشاعر والقائم على منهج تأملي صارم، موضوعه تأويل المادة وترجمتها بصيغ مختلفة عبر النفاذ إلى شكلها ونشاطها بل وحركتها الجوهرية الكامنة في تجسداتها وتحولاتها الخارجية. وهو نفسه يفسر هذا المنهج الشعري التأملي بالقول: «من السهل جداً أن نحلم شعرياً لكن ليس من السهل بتاتاً أن نجعل الشعر مكاناً للتأمل» كما يستشهد غير مرة بمقطع دال من رسالة لسانتا تيريزا دي خيسوس تقول فيه: «إنني أقضي زمناً طويلاً جدّاً في تأمل ماهية الماء». ثم نجده يستشهد أيضاً بجملة شهيرة لريلكه تقول: «فلتجرؤوا على أن تتحدثوا عما تسمونه تفاحة». يتعلق الأمر إذن حسب الشاعر بمهمة شديدة الخطورة، مهمة كشف السر الخطير للواقع، هذا الواقع الذي يبدو في نظرنا بديهياً وبسيطاً بينما هو محفوف بغابة من الألغاز والأسرار. ومن ثَمّ نفهم ونقدّر أيضاً العمل المضني الذي تطلبه إنجاز أعماله الشعرية الخمسة باتخاذه الشعر ممارسة معرفية شكلت ضمنها أعماله مسيرة متضافرة وبناءً مكثّفاً وجدلياً لمسارٍ شعري «مطبوع بالشكوك، التناقضات، التجريب والتحولات على مختلف مستويات التعبير» (حسب الناقد لويس خامبرينا). في سنة 1953 أصدر كلاوديو رودريغيز ديوانه الأول «هبة النشوة». لم يكن عمره قد جاوز 19 سنة بل إن الشاعر نفسه يقول عنه: «في سن 17 بدأت بكتابة «هبة النشوة» أي بكتابة الشعر كهبة، كنشوة، بالمعنى الأفلاطوني للإلهام الشعري، من حيث هو حالة انخطاف أو حمية بالمعنى المسيحي للكلمة». لقد أدهش هذا العمل القراء والنقاد بعدما فاز بجائزة أدونيس الرفيعة للشعر، بما انطوى عليه من نضج شعري غير عادٍ رؤيةً ولغةً، بناءً وإيقاعاً. ويعتبر كلاوديو رودريغيز نفسه أن التجربة الشعرية في هذا الديوان/ القصيدة «انبثقت بالاتصال المباشر بالواقع، واقع أرضه القشتالية وبحياة أهالي «قشتالة وزامورة»». إنَّ «هِبة النشوة» حسب لويس خامبرينا*: «هي قصيدة واحدة مؤلفة من ثلاثة أقسام ذات بنية دائرية لأن نهاية القصيدة تحيلنا إلى بدايتها». ليس ثمة موضوع محدّد بل حالة نشوة وانخطاف مستمدة مِمّا يسميه الشاعر «المحرّك» أو «الحافز»، ذلك أننا نجد أنفسنا (حسب لويس خامبرينا دائماً) إزاء عالم أصلي مرئي، دائماً في حالة ولادة «في لحظة شروق لحظة فجرية دائماً» حسب الناقد الإسباني خيسوس كانياس. قصيدة «هبة النشوة» إذن تعبر عن رؤيا كشفية حلولية يرتفع فيها الحجاب عن «الواقع الجوهري الأصلي للأشياء». لكن القوة الشعرية لهذا العمل تأتي من حيوية المتخيل والأبعاد الرؤيوية والإحساس الحي الفوري وطراوة اللغة والتناغم الشعري في تساوق تام مع فرادة هذه التجربة الشعرية الاستثنائية. وهذه نصوص مختارة بعناية من «هبة النشوة»: الصفاء دائماً يأتي من السماء الصفاء دائماً يأتي من السماء، الصَّفاءُ هِبةٌ: لا يُوجدُ وسط الأشياء بل عالياً جدّاً فوقها، وهو يحتلُّها صَانِعاً من ذاته حياةً خاصّة به. هكذا يشرق النهار؛ هكذا يُغلقُ اللّيْلُ الغرفة العُظْمى لظلاله. وهذا بذاته هبةٌ. مَنْ يجعل المخْلوقاتِ أقلَّ مخلوقية كُلَّ مرة؟ أيُّ قبّة عالية تحتويهم بِحُبِّها؟ على أنَّه وَصَلنا قبل الأوان، وَصَلنا دائرياً مموسقاً على شاكلة تحليقاتك، وهو يحوِّمُ، وينأى، بعيداً لا يزال لا شيء ثمة أوضح مِن زَخْمه! يا صَفَاءً ظمآن لشَكْلٍ ما؛ لِمَادّة معينة بغرض إضاءَتها، لتحترق بذاتها بإتمامها وظيفتها. كمثلي أنا، مثل كُلِّ ما يَنْتَظِرُ إذا كنت أنت أخَذَتَ الضِّياء كُلَّه، كيف عَليَّ أن أنتظر شيئاً من الفجر؟ ومع ذلك، - هذه هِبةٌ أيضاً - فَفَمي ينتظر، وروحي تنتظر، وأنت بانتظاري، يا تعذيباً ثملاً، يا صَفَاءً وحيداً مُمِيتاً مثل عِناق المناجل، لكنَّهُ عِناقٌ حَتَّى النهاية لا يتراخى أبداً. *** كما لو لم يَكُن ذلك الصفاء صفائي كما لو لم يكن ذلك الصفاءُ صفائي. امنحوا الهواءَ صَوْتي وليكن صوتي في الهواء صوتَ الجميع ليعرفه الجميع مَعْرفَتهم بالصَّباح أو بالمساء لا الغُصْنُ يُسْعفه أبْريلُ وحدهُ ولا الماء ينتظر الضَّحْضَاحَ وحده. من يستطيع القول إن الرِّيح مُلْكُهُ، الضوء مُلكُه، شَدْوُ الطيور الذي يتألَّق معه الفَصْل، لا سيَّما عندما يأتي الليل متّقداً في الحَوْر الأسود محبوساً بخطورة؛ ألاَ فَلْيَنْتَهِ كُلُّ شيءٍ هنا، ليَنْتَهِ كُلُّ شيء مرّةً واحدةً وإلى الأبَد! الزهرة تَحْيا جميلةً لأن عُمْرها قصير، ومع ذلك، كيف تتخلَّى عن أن تكونَ زهرةً لتتحوَّل إلى اندفاعة استسلام. أيها الشِّتاء، ولو لم يكن الربيعُ من وَرَاءٍ، أَخْرِجْ ما لَديَّ خَارجَ ذاتي واجعلني جزءاً، طَلْعاً لا مُجْدياً يَضِيعُ في الأرض، طَلْعاً كان للجميع وللا أحَد. فوق القَفْر المفتوح يَغْدو الندى غابةَ صَنَوبر عَلَى الصنوبرة، هواءً في الهواء، نَدَى لأجل جَفَافي وحده. في الصوت الذي يَحْفُر مَجْرَى، أيُّ تدنيس للجسد، لعدم القُدْرة على أن تغدو قرباناً وتَقدِمةً. *** أغْنِية الاستيقاظ ... وَلَمَّا مَرَرتُ عبر تلك الغوطة لم أعد أعْرف شيئاً... (سان خوان دي لاكروث) الأخدود الأول لهذا اليوم سيكون جسدي. حينما من أعلى ينبثق الضِّياء يُوقظ هواتف الأحلام ويقودني قَبْلَ أنْ يمنحني مَعالم المشهد. هكذا مرَّةً أخرى وقبل أيٍّ كان، أُحسِّني أحْيا، والنسِّيم لمَّا يَزَلْ وليداً، بصفاء الضّياء وحده. لكنْ ثمة حركةٌ أقوم بها، عَصا سحرية أملكها، أنظروا، فجأة تشرق الكائنات، وتُشيرُ إليَّ. كُلِّي براءة! كما أن الكُلَّ يتَّحِد وفي حركات بسيطة حَتَّى الحَدِّ الأقصى، أجل، لأجل عقابي: رشاقة شجرة الحَوْر متَاحة لأيِّ نظرة! أبوابٌ بِنُدَفِ ضَبَابٍ على العتبات العليا تنفتح هناك، تجتاز تلك الذُّروةَ. هل ثمة مَا هُوَ أبسط مَا هُو أبهى من تمَايل الحقول المزروعة ذاك؟ أيُّ شيء أكثر إقناعاً مِن العُشب لحظة إنباته؟ لا ألمُس شيئاً. لا أغتسل في الأرض كالعصفور. أجل، لأجل عقابي، يولد النهار وينبغي إبعاد انتكاسته نفسها عن الأخريات. هنا مَكمنُ الخطر والآن، في السهل المصنوع من فضاء، سأكون بمثابة بياض بالنسبة إلى ما خُلِق. تنفُّس فَاتِرٌ لِخُبْز طريِّ يَصِلني وكذا الحقل يُعلي أشْكالاً منْ يُبُوسة سَنيّة، وبعدئذ، مَا يَضيعُ وَسْط غوامض الطريق وشكل الطريق الآخر الأوسع، نَحْنُ صَنيعةُ ما ينبعث من جديد. بعيدٌ أنا، كَمْ أنا بعيد ما زلت، حَامِضاً مثل التوت البرِّي، إيقاع الأشياء يؤذيني. روح الطائر ترقُد تحت قِمْع الشجرة لَيْلُ حميمية شبَقة، لَيْلُ حَبَلٍ بالعالم، لَيْل شاسع! أوه، لا شَيْءَ أكيدٌ تحت هذه السَّماء. لا شيء يُقَاوم الآن. يحدث عندما يُوقِظني ألمي بالغاً الذروة أن تبدأ الصُّور في الاختفاء وفي إظهار فعل نُموِّها السريع في كل مَسَمٍّ من مَسَامِّي. حينئذ يجب أن تتقدّم الحياة نقية، كَمَا الهواء، الهَواء المستفِزّ. الكُلُّ جديدٌ رُبَّما بالنسبة إلينا *** يستمِرُّ مارس (إلى كَلارا ميرندا) الكُلُّ جديدٌ رُبَّما بالنسبة إلينا. الشَّمس المشرقة، الشمس الغاربةُ، تموتُ؛ التي تَطْلَعُ الآن هي أكثر سطوعاً وعُلُوّاً كُلُّ صَبَاح هو الصباح الأول. لِكي نعيشه أنت وأنا وحيدين، لا شيء متماثلٌ لا شيءَ يتكرَّر. ذلك المُنعرج، من أشجار لوز مزهرة، أكَانَتْ به أزهارٌ أمْسِ؟ ذلك الطائر أليس يحلّق مصادفةً في دوائر أكثر انفتاحاً؟ والسماء بَعْدَما أثْلَجَتْ هل تَعْثر الآن عَلَى سطوع كان من قبلُ غيوماً؟ الكلّ جديدٌ ربَّما. إن لم يَكُنْ جديداً، إن اتَّخذتِ الصّورُ في هذه الساعة حياةً في صور أخرى، وذكريات يوم مَضَى عَادَت لتُخفي ذكريات اليوم، مُخفيةً وُضوحَها النّامي؟ فأيُّ مفاجأةٍ أمْنَحُها لكينونتي، أيُّ نزوةٍ، أيُّ ضياءٍ جَديد أمْ أيُّ مَهَامٍّ جديدة؟ ماءُ النهر، مَاءُ البحر؛ نجمة ثابتة أم تائهة. أيُّ حقيقة، أيُّ مَشْهَدٍ نقيٍّ هُو مشهد الحب، الذي يَرَى الأشياء، الواقع الحَزينَ لمظهرها. *** كيف أرى الأشجار الآن كَيْفَ أرَى الأشجار الآن. ليست بورقات متساقطة، لَيْست بفروع خاضعة لصوت النموّ. وحتَّى النسيم الذي يُحْرقها عبر هبّاتٍ لا أحسُّه كشيء من الأرض ولا مِنَ السماء، وإنَّما من نقص في ألَم الحياة كَمَصير. أما الحقول، البحر، الجبال، فإنّني من فوق شكلها الجليِّ أراها. مَاذا دَسُّوا في رؤيتي؟ ألأنَّني سأموت؟ قولوا لي. كيف ترون الرجال، أعمالهم، الأرواح الخالدة؟ كيف؟ نعم، ثَمِلٌ أنَا، بلا شكٍّ. الصَّباح لَيْسَ صَباحاً، هو سَهْلٌ بلا معركة، يكاد أن يكون خالداً، مجهول تقريباً إذ في كُلّ مَكانٍ كان الزمن فيه ظِلّاً، ينتظر الضياء فيه أن يَصيرَ مَخلُوقاً ليس الهواء وَحْده ما يترك نَفَسه: لا يملك لا غناءً ولا أيّ شيء؟ بل يُوهَب إياه، فيبدأُ هو بإحَاطَتهِ بسُطوع زائل من إيقاع جناحٍ ثم يحاول أنْ يَصْنَعَ فجوة كافيةً لكيلا يبقى خَارِج «اللعبة»، لا، ليس فحسب أن يبقى خَارِجاً ربَّما، ولكن على مسافة. إذن: لهواء هذا اليوم غناؤهُ. لوْ تسمعونه! والشمس، النَّارُ، الماءُ، كيف تمنحها عينايَ الموقعَ. ألأنني سأعيش؟ أسَتنتهي النشوة بهذه السرعة؟ آه، وكيف أرى الآن الأشجار، كم من أيام قليلةٍ تبقَّتْ...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©