الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ضمير القصّ.. الإماراتي

ضمير القصّ.. الإماراتي
21 ديسمبر 2016 19:34
موزة آل علي تعد قضية وجهة النظر من القضايا النقدية البارزة في السرد القصصي، فلا يكاد يخلو منها أي مؤلف يتناول القصة، ولعلها اكتسبت أهميتها من ارتباطها الوثيق بعنصر من عناصر القصة ألا وهو الراوي، وذلك على اعتبار أن القص يرتكز على عنصرين أساسيين: الراوي والمروي له، وقد عالج موضوعاتها عدد من النقاد الأوروبيين والعرب، وما زالت حقلا مفتوحا للبحث (1). أطلق نقاد الحقل السردي تسميات عديدة للمنظور السردي مثل: (التبئير، وجهة النظر، زاوية النظر، المقام السردي، البؤرة السردية، الرؤية، التحفيز، زاوية الرؤية، بؤرة السرد، المنظور القصصي (2)، وهو على كثرة مصطلحاته يعني: فلسفة الروائي أو موقفه الاجتماعي أو السياسي أو غير ذلك (3). ويحبذ صاحب كتاب (في السرد) (4) استخدام مصطلح (الموقع) لأنه كما يرى الأقرب في الدلالة على هوية الراوي الفكرية والأيديولوجية والشكلية. على أن اختلاف المصطلحات الدالة على هذا المفهوم يعود إلى تعدد المنطلقات المنهجية التي تدرس الموضوع، أو ربما اختلاف الترجمات التي من شأنها أن تخلق هذا التعدد. ويذكر لحميداني في «بنية النص السردي»: «ومهما يكن المصطلح الدال على هذا المفهوم، فإننا قد لا نتفق إلا على شيء واحد هو ما أشار إليه فيرث بقوله: إننا متفقون جميعا على أن زاوية الرواية هي بمعنى من المعاني مسألة تقنية ووسيلة من الوسائل لبلوغ غايات طموحة» والمقصود بالغايات الطموحة هي حالة التأثير على المتلقي. فحين ينتخب المؤلف ذاتا تخييلية في عملية القص، هذه الذات هي التي تتولى مهمة عرض رؤيته الفكرية، ونسج خياله إلى المتلقي، أما المؤلف نفسه فيتنحى جانبا بعد تأليفه للقصة لتحل محله شخصية متخيلة تؤدى دورها في النص. وقد تظهر بدور المشارك في صنع الأحداث، أو تنظر للأحداث نظرة محايدة، تلك الصورة التي يظهر بها الراوي هي التي تحدد وجهة نظره تجاه العالم المتخيل وتجاه الشخصيات. مراحل تطور المفهوم تطور مفهوم (وجهة النظر) من خلال مرحلتين: الأولى منذ بداية القرن العشرين إلى أواخر الستينيات، والثانية تبدأ مع بداية السبعينيات مع التطور الذي توج بظهور السرديات كاختصاص كامل. وقد استمد هذا المصطلح من الفنون التشكيلية، ونقل إلى المجال النقدي ليعبر عن رؤية النفس المدركة للأشياء، ووجهة النظر التي تحكم الراوي في القصة. وترى سيزا قاسم أنه: «رؤية إدراكية للمادة القصصية. فهي تقدم من خلال نفس مدركة، ترى الأشياء وتستقبلها بطريقة ذاتية، تتشكل بمنطلق رؤيتها الخاصة وزاويتها (أيديولوجية كانت أن نفسية) بالإضافة إلى المنطلق التعبيري الذي يختاره الكاتب، ليقدم بواسطته روايته وموقعه الذي يختاره....». وتأتي أهمية وجهة النظر من أنها تحدد هوية السرد القصصي وطبيعة انتمائه لتقاليد القص لكل عصر، ففي السرد الحكائي التقليدي يتدخل القاص بشكل مباشر في عملية السرد، في حين أن القاص المعاصر يتقنع براو وبأشكال وزوايا مختلفة متخذا الضمائر الثلاثة كأدوات لاستبطان الأحداث والشخصيات. ويعود فضل السبق في طرح موضوع المنظور السردي إلى الأديب (هنري جيمس) منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث دعا إلى ضرورة تحرير الشخصية من ربقة الراوي حتى يكون لها رأيها وموقفها الخاص وعواطفها المستقلة عن سلطته. أما (فريدمان) فقد قدم تصنيفا آخر لوجهات النظر قائم على سبعة أسس: أولاً: المعرفة المطلقة للراوي. ثانياً: المعرفة المحايدة حيث يتكلم السارد بضمير الغائب ولا يتدخل ضمنا، وتقدم الأحداث من وجهة نظره. ثالثاً: الأنا الشاهد: يأتي بضمير المتكلم، حيث الراوي مختلف عن الشخص، وتصل الأحداث إلى المتلقي عبر الراوي. رابعاً: الأنا المشارك حيث الراوي المتكلم هنا شخصية محورية. خامساً: المعرفة المتعددة، حيث نجد أكثر من راو برؤى وأفكار متعددة، والقصة تقدم لنا كما تحياها الشخصيات. سادساً: المعرفة الأحادية: يكون الراوي حاضرا مع التركيز على شخصية محورية وثابتة ترى القصة من خلالها. سابعاً: النمط الدرامي: حيث التركيز على أفعال الشخصيات وأقوالها، أما أفكارها وعواطفها فيمكن استنباطها من خلال أفعالها (5). ثم جاء (بيرسي لوبوك) الذي ميز بين العرض والسرد، ففي العرض يتحقق حكي القصة نفسها، وفي السرد راو عالم بكل شيء. أما الناقد الفرنسي (جون بويون)، فقد اختزل وجهات النظر في كتابه (الزمن في الرواية) حسب العلاقة بين السارد والشخصيات، حيث استنتج ثلاث رؤى هي: الرؤية من الخلف، الرؤية مع، الرؤية من الخارج. فالرؤية من الخلف: تقوم على مفهوم السارد العالم بكل شيء، وتفوق معلوماته درجة معرفة الشخصيات في بعض الأحيان، كما أنه يستطيع معرفة ما يدور بخلد الأبطال حيث (معرفة السارد أكثر من معرفة الشخصيات). إن تمكن السارد من التغلغل في نفسية الشخصية، وتفسير الاختلافات والاضطرابات في المشاعر والأحاسيس جعل من السارد خبيرا وعالما بخبايا الشخصية أكثر من الشخصية ذاتها، وهو بهذا الشكل قدم نظرة شاملة وواضحة لا تحتاج إلى إعمال الفكر أم المسرود له. كما أنها لم تأت عبثا دون فائدة، بل جاءت مقرونة بدلالات مقصودة ومدروسة. أما الرؤية مع وتسمى أيضا (الرؤية المجاورة)، فهي الرؤية التي تتساوى فيها معرفة السارد بمعرفة الشخصيات، فالسارد هنا يقف مع الشخصية جنبا إلى جنب في ملاحظة ما يلاحظ، فتقدم الأحداث مع الشخصيات من خلال منظور شخصية بعينها. ويستخدم في هذا الشكل ضمير المتكلم أو ضمير الغائب (6). وأما الرؤية من الخارج؛ فهي الرؤية التي تكون فيها معرفة السارد أقل من معرفة الشخصيات، حيث تقتصر معرفة السارد على وصف أفعال الشخصية ومظهرها الخارجي والحركة، والأصوات، ولكنه يجهل أفكارها ولا يبذل جهدا في الكشف عنها (7). والقارئ في مثل هذا النوع يجد نفسه دائما أمام كثير من الأمور المبهمة التي تحتاج منه إلى بذل جهد لاستنباط دلالتها. وأقام الناقد (تودروف) ثنائية مختزلة لتصنيف (بويون) مع إدخال تعديلات بسيطة، تتمثل هذه الثنائية في: الرؤية الخارجية والرؤية الداخلية، وهما رؤيتان تقابلان أسلوبي السرد الموضوعي والسرد الذاتي لدى الشكلاني الروسي (توماتشفسكي)، فالرؤية الخارجية هي رؤية السارد كلي العلم الذي يروي بضمير الغائب والمنطلق من أسلوب السرد الموضوعي، أما الرؤية الداخلية فهي رؤية السارد محدود العلم أو المشارك كما في الرؤية لدى (جون بويون)، وهي رؤية تنطلق من أسلوب السرد الذاتي. من جهته، قدم (جيرار جينيت) تصوره بعد استبعاد مفاهيم مثل: الرؤية، وجهة النظر، وتعويضها بالتبئير، حيث نقض كل التصورات السابقة للسرد، وجاء ببديل آخر اختياري هو (التبئير) الذي قسمه تقسيما ثلاثيا إلى: = اللاتبئير: السارد هو الذي يقوم بالإدراك والمعرفة الكلية لما يحيط بالشخصيات وهو ما نجده في السرد التقليدي. = التبئير الداخلي: هو سرد مبأر من الداخل، وهو ثابت ومتحول ومتعدد. = التبئير الخارجي: وهو سرد مبأر من الخارج، وفيه لا يمكن التعرف على دواخل الشخصية. معالم القصة تتحدد معالم القصة من خلال ثلاثة مرتكزات أساسية، لها صلة بالراوي، وهي مصطلحات تحمل أبعادا زمانية ومكانية يرصدها الراوي في لحظة محددة، ومكان معين: أولاً: الموقع؛ ويعني ــ حسب رؤية الفن االتشكيلي ــ المكان الذي توضع فيه الكاميرا لرصد وتصوير معالم محددة حيث يحددالراوي زاوية تلائم فكرته، وتراعي الأبعاد النفسية والظلال المتعلقة بالشخصيات،، وهذا ما ينطبق على موضوعات القصص، فللموقع تأثير داخلي في شخصيات النص، وخارجي في القارئ بإثارة عاطفته الإنسانية من خوف، وفزع، وفرح، وحزن..الخ. ثانياً: الجهة؛ وهي الجهة التي يرصد فيها الراوي العالم المتخيل حسب رؤيته الفنية وما يضيفه إلى الجهة من لمسات ذاتية. ثالثاً: المسافة؛ ويقصد بها المسافة الفاصلة بين المصدر والشيء، فقرب المسافة يساهم في إيضاح معالم الأشياء وتفاصيلها، بعكس المسافات البعيدة التي تطمس التفاصيل والحيثيات الصغيرة. هذه العناصر الثلاثة هي التي تتحكم في اختيار الأحداث والأفكار والأقوال، وهي ذاتها التي تحدد مفهوم وجهة النظر (8). ونستطيع القول إن الراوي في العصر الحديث انفصل عن المؤلف، واستقل بذاته وبالنص الأدبي تدريجيا، فأخذ يشكل حضورا جديدا في الأحداث ويتولى تنظيمها، وصياغتها بطريقة تتناسب مع المضمون الكلي للعمل الفني، فضلا عن استخدام التقنيات الفنية، والأساليب اللغوية، وتصوير المشاهد كلها، وإبراز الجوانب الجمالية في اللغة والفكرة، وكل ما من شأنه أن يعلي من قيمة العمل الإبداعي المتخيل ويجعله عملا فنيا متكاملا. نماذج من الإمارات تنوعت الصيغ السردية في القصص الإماراتية، وتداخلت في معالجتها للأحداث، والتعبير عما يخالج الشخصيات من مشاعر متضاربة، فالسرد الذي يتشكل في القصة عبر ضمائر اللغة (الغائب والمخاطب والمتكلم)، هو الذي يحدد مدى اقتراب السارد من مسروده، ومدى قدرة القاص على تقديم الشخصيات – أقوالها وأفعالها- بصبغته الخاصة، ويلاحظ أن السرد عامة يميل إلى استخدام ضمير الغائب، الذي يمثل الصيغة الأكثر تداولا في القصة والرواية العربية، حيث يمتلك السارد المعرفة الكلية بالشخصيات، ويعبر عن خلجاتها وما يحيط بها من ظروف وملابسات، وقد تعددت الأنماط السردية في القصة الإماراتية من خلال استثمار الضمائر المحكية: أولاً: الرؤية من الخلف تتمثل في هيمنة السارد العليم المطلع على كل شيء، ومعرفته الشاملة بخبايا الشخصيات، فيعرف ما تعرفه وما لا تعرفه، وهو المتحدث الرسمي باسمها، فلا يرى الأشياء إلا من خلال وجهة نظره، ويكثر في هذا النوع من السرد استخدام ضمير الغائب، وهو أكثر الضمائر تداولا في السرد القصصي، لأنه «وسيلة صالحة لأن يتوارى وراءها السارد فيمرر ما يشاء من أفكار، وأيديولوجيات، وتوجيهات، وآراء دون أن يبدو تدخله صارخا ولا مباشرا». (9).. كما أنه يفتح مجالا للقاص أو الروائي بأن يعرف عن شخصياته، وأحداث عمله السردي كل شيء، فيكون موضعه السردي قائما على اتخاذ موقع خلف الأحداث التي يسردها، ويمكن أن نمثل بعدد من القصص الإماراتية التي تقدم وجهة النظر استنادا إلى النمط السردي القائم على الرؤية من الخلف: في قصة (نفافة) للقاص محمد المر، يهيمن الراوي هيمنة تامة على القص، ويعرف عن شخصياته أكثر مما تعرف هي عن نفسها: «نفافة ابنة ناصر بن سعيد كانت نموذجا مثاليا للطفلة –المرأة - الأنثى. كثير من النساء الحوامل كن يكثرن من زيارة والدة (نفافة) ويطلن النظر في ابنتها....عندما يحضرها والدها إلى دكانه يرتفع عدد من الزوار من ثلاثة أو أربعة إلى ما يزيد على العشرين.. أمها تحبها بشكل جنوني وتعبدي، نفافة كانت كثيرة الحركة، تحب اللعب مع رفاقها، وتعشق المشي في الأسواق... اختفت نفافة من فريج الرأس، كثر الكلام، لم يعرفوا أين ذهبت، بعضهم قال إن والدها حبسها مرة ثانية، وقيل إنها غرقت في الخور، وقالوا إنها ذهبت لبر دبي، وقيل إن أحد السحرة طار بها...». رؤية الراوي هنا أوسع وأكثر من رؤية الشخصيات فقد عرف سبب تسمية الأم ابنتها بهذا الاسم، وعلم ما يجيش في صدور الشخصيات الأخرى ونظرتها تجاه نفافة، كما عرف تعلق الأم الشديد بابنتها، ثم تطرق إلى تحديد صفات البطلة نفافة. كل ذلك ينم عن علم الراوي بشؤون شخصياته الداخلية وسلوكياتها. في قصة (الغائب الذي لن يعود) لجمعة الفيروز، استطاع الراوي أن يقص أخبار الشخصية ويغوص في دواخلها، ويكشف الأسباب والعلل والروابط التي تصل بعضها بالبعض الآخر في القصة: «أحسست بأن أهلها يلحون عليها لترك الدراسة..وجاء التأكيد من الأب الذي أحس بنضج أنوثتها، فقرر أن يريح ضميره.. أحست بالضيق..راحت تسبح في عالم غني بأشكاله وألوانه، عالم مجهول ينتظرها للرحيل إليه.. تغيب ساعات وساعات في خلوتها...». اهتم الراوي بالبواطن أكثر من اهتمامه بالظواهر، فقد تحدث عن قلق الأب والظنون التي تساوره بشأن ابنته، كما سبر أغوار البطلة ليصف لنا حالتها وما تعانيه من ضجر وضيق، وما سينتظرها من قيود، ومن خلال حديث الراوي العالم بكل شيء تنكشف أمامنا صورة المجتمع الإماراتي حيث سيطرة الاب على الأسرة لاسيما البنات وما يتعلق بشؤون تزويجهن. في قصة (حدادا على أديسون) لابتسام المعلا، تتداخل المقاطع السردية مع المقاطع الوصفية حيث يقوم الراوي العليم بعملية الوصف الدقيق لحالة أسرة كل شخصية فيها منهمكة في عملها وخصوصياتها، وعندما انقطع التيار الكهربائي فجأة خرج الجميع من غرفهم، توسطهم الأب الممسك بخيوط الحوار، وكانت جلسة عائلية حميمية في ظلام حالك، إلى أن رجعت الكهرباء وتوقف الجميع عن الحديث. الراوي بسرده التفاصيل الصغيرة لحياة هذه الأسرة وموضوعاتها يدل على معرفته الكلية بأخبارها: «في وقت واحد تقريبا تثاءبت الأبواب مثل من أوقظ للتو من غفوته وانفتحت على هياكل أصحابها. سمع أولا سعال الأب ثم همهمة الأم منبهة إياه إلى موقع الطاولة والكراسي ثم اختلطت أصوات الباقين...تلمس الأب الطريق أمامه فاصطدمت يداه بهيكل ابنه الأكبر ثم سأله عن سبب غيابه على الغداء...». ثم جاء الأخ الأوسط ودخل في الحوار ثم الأصغر والشقيقة والأم واتسعت الدائرة فشملت الجيران، وينتقل الراوي من مشهد إلى آخر ومن شخصية إلى أخرى وهو ممسك بخيوط الحوار. في قصة (امرأة مستحيلة) لباسمة يونس، يطالعنا ذلك الراوي العارف بكل شيء وهو يجول في أعماق الشخصيات مخبرا عن مشاعرها وقضاياها: «حينما خرج عبدالله من مجلس أبيها ملسوعا بسياط الرفض، توجه إلى جسر المكتوم كي يتعمد إلقاء نفسه من فوق السور....فارتجت في عقله أصوات أبيها وأخوتها ورجال عشيرتها الغاضبة وهم يهتفون بحدة: طلبك مرفوض ! اقتحم أبوها الغرفة وهو يتوعد بصوت كرهته دائما: ما الذي جعل عبدالله بن سالم يتجرأ على طلبه الزواج منك؟ ألا يعرف ابن من هو وابنة من أنت؟ فم أخيها الأكبر كان يتمطى ويتحول إلى شدق قرش كبير يود ابتلاعها:لابد وأنك أرخيت له الحبل.... أيديهم العمياء كانت تصيب أي مكان تسقط عليه من جسدها..». أحاط الراوي بمجريات الأمور إحاطة شاملة، كما عرفنا بسلوك الشخصيات وأفكارها ونجواها الذاتية، فأدركنا مدى تسلط الجنس الذكوري المتمثل في الأب والأخ، ومعاناة الفتاة الكسيرة في ظل أجواء من الحرمان، والاستبداد والقهر. أما عبدالله الذي تقدم لخطبتها فقد نال نصيبه من المعاملة الغليظة والرفض والاعتراض الحاد مما حدا به الأمر إلى محاولة الانتحار. حرص الراوي المهيمن على رصد تلك التفصيلات الدقيقة، والإحاطة بالحوادث كلها للمروي له دون عناء من القارئ أو جهد في التأويل والتفسير. وثمة أفعال كثيرة تدل على معرفة الراوي بدخيلة الشخصيات مثل (اقتحم، توعد، تصيب) دلالة على الهجوم والشدة مقابل الألم والجرح الذي نال الشخصيات المأزومة. ومن الدلالات على أن الراوي أكثر معرفة من الشخصيات وأكثر تجوالا في أعماقها ومعرفة بالأحداث كلها هو تعليقه على مشهد، أو توضيحه شيئا، أو تعليله لحادث معين...الخ في قصة (طريقة عمل المقلوبة) للقاصة أسماء الكتبي، يعلق الراوي على شيء، ليعلل حدوثه، حيث أشار إلى أن الإنسان يلجأ للكذب عادة ويبرر كذبه بأن يجعل له لونا، كذب أبيض وآخر أسود، حتى أولئك الذي لا يخطئون قد يكذبون أو يقعون على حافة الكذب. «حين نود أن نبرر كذبنا نلونه، فصار الكذب أبيض وأسود، وليس الكذب وحده الملون في حياتنا، بل إن كل شيء يحتاج إلى تبرير لوناه، وصبغناه حتى يبدو أزهى وأجمل، وقد يتجاوز التلوين التبرير ليصل إلى التزوير، فنحن حين نلون نزور الكذب بطريقة فنية مبتدعة، لكنا في النهاية نكذب، وكلنا اليوم يكذب، حتى أولئك الذين لا يقدمون على أية خطيئة، فهم بطريقة ما واقعون في خطيئة الكذب.. والكذب لا يكون لدرء الضرر عن أنفسنا فقط، فقد يكون لدرء الخطر والمكروه عن أناس يهمنا أمرهم...». تعد تعليقات الراوي وتفسيراته وحكمه على الشيء نوعا من التدخل في السرد بالشرح والتعليل انطلاقا من أنه يعلم كل ما يدور حوله، ويعلم الآخرين بعضا من معارفه وخبرته في الحياة.هذه النظرة الكلية الشمولية هي التي تتحكم في صياغة السرد كله، ولابد من أن نقبل الراوي على حكمه سواء أجاء إيجابيا أم سلبيا، لأن ذلك يعتمد على طبيعة الراوي ووجهة نظره في المواقف والأحداث وعلمه المطلق بها. ثانياً: الرؤية مع هذا النوع من الرؤية يقدم راويا يعرف ما تعرفه الشخصيات، ويقترب منها اقترابا شديدا حتى يصبح واحدا منها، ويمتزج موقعه بموقعها، ويشارك الشخصيات في صناعة الأحداث اعتمادا على أن خير من يروي الحدث هو من يشارك في صنعه أو يشهد وقوعه. وتمكن الإشارة هنا إلى قصة (رجل) لفاطمة الكعبي، فالراوي جزء من الحدث: «لم أر أمامي في هذا العالم إلا هو، وما همني صراخ أبي العجوز وهو يتبعني بكرسيه المتحرك إلى الباب متوعدا إياي بالقتل إذا أنا خرجت في هذا الوقت. ولم تمنعني صورة أمي المائلة على الحائط بوهن، ولا رائحة حنائها التي تفوح من غرفتها المغلقة...». لم تكتف الراوية باستخدام ضمير المتكلم، بل أشارت إلى الشخصيات الأخرى، إلى أبيها، وإلى الشخص الذي أحبته، وأطلعتنا على رفض الأب لخروجها وتوعده لها بالقتل، كما نستنتج رغبة الفتاة في الانعتاق من قيود الأب وسيطرته، والتوق إلى الحرية والحب. يقدم القاص علي الحميري في قصة (العمائم الخضر) راويا مشاركا للأحداث بضمير المتكلم: «كنت معجبا بذلك الشاب النحيل الأسمر مجعد الشعر إعجابا لاحظه أبي، وبقية أهلي.. وجدته كثير الحرص على تثقيف نفسه، كثير القراءة.. أخذ أبي يشجعني على مرافقة عوض بعد أن أعجب به أيضاً...كنت أشعر بسعادة وحماس شديدين وهو يحدثني عن أفكار جديدة عن العدل، والمحبة، والجمال، وحقوق الإنسان...الخ». عبر الراوي المشارك عن رأيه تجاه الشخصيات الأخرى: رأي الأب تجاه عوض، ورأي ابنه تجاه عوض، حيث تلتقي الآراء جميعها حول الصيت الحسن لعوض، وأخلاقه الرفيعة كما نستدل هنا من خلال الراوي المشارك على اهتمام الأب باختيار الرفيق الصلح لابنه، فالقرين بالمقارن يقتدي. في قصة (ضوء يذهب للنوم) اتخذت القاصة ابتسام المعلا ضمير المتكلم.وكان هذا الضمير طاغيا على الأسلوب، ومسيطرا على الأحداث أكثر من الشخصيات الأخرى، ربما لأن البطلة هنا تميل إلى الحديث مع النفس ومع الآخرين سعيا إلى تخفيف الضغط النفسي على ذاتها الحزينة المكبوتة: «منذ أعوام طويلة لم اكن طفلة مثلما كنت في الدقائق التي تلت خروجي من الغرفة المعطرة برائحة العمى، وأنا اقطع الممر مع أبي في طريقنا إلى موقف سيارته..في الطريق إلى البيت فكرت أنني سأركل كل شيء بمجرد عودتي. سأركل العالم كله، وأبدأ في تعلم كل العادات السيئة التي قاومتها لسنوان...هل سيكون علي أن أبذل جهدا مضاعفا بعد أيام للتفريق بن اللونين الأسود والكحلي؟ بل ربما الأخضر والأسود؟ فجأة آلمني قلبي على أبي، وعلى يده التي امتدت لي بمفتاح السيارة الجديدة ذلك اليوم، وعلى قامته المديدة التي تعلقت بها شاكرة، وعلى نصائحه الصغيرة التي يضمنها أحاديثه بشأن صحتي...». نستشف صيغة السرد بضمير المتكلم ما يموج في أعماق البطلة من هواجس وأفكار تنم عن قلق داخلي، وردة فعل لحالة الخوف الذي يساورها، وحديثها عن الآتي والمستقبل ما هو سوى رغبة جامحة في استثمار ما بقي من الوقت للاستمتاع بالحياة، وتحقيق كل الرغبات المؤجلة. ونلاحظ أيضا تدخل الراوي العليم مستعينا بالراوي المشارك في التفسير والشرح، كما في حديث الراوي عن الفتاة وأبيها: «سألني أبي السؤال ذاته: هل ستتغدين معنا أم ستنامين؟ يومها قلت له: كيف أنام؟ سألف الشارقة طولا وعرضا بسيارة وليد حت تشتري لي سيارة جديدة...بعد أسبوع تماما، اشتري لي أبي سيارتي البي أم السوداء فطوقت مرآتها الصغيرة بعقد ياباني ملون». ثالثاً: الرؤية من الخارج الراوي في هذا النموذج حيادي تجاه ما يرويه، وغير عالم بدلالاته، ويتحول من الراوي الشاهد العالم (ضمير الغائب)، والراوي المشارك (ضمير المتكلم) إلى مجرد مراقب يكتفي بالسرد (ضمير المخاطب). ويعد ضمير المخاطب الأقل ورودا أولا، ثم الأحدث نشأة آخرا في الكتابات السردية المعاصرة، فهو الوسيط بين ضميري الغائب والمتكلم، فلا هو يحيل على خارج محض ولا على داخل محض. (10) في قصة (دريم) لعبدالرضا السجواني، يلجأ الراوي إلى ضمير المخاطب للتعبير عن سخط الأب من ابنه الذي تزوج فتاة أجنبية غريبة، بعيدة كل البعد عن عاداتها وتقاليدها: «سنة كاملة، وهي تعيش معك في منطقة الذيد، وحطام أحلام مرتم في فج سعادتك، وأشواك تنبت كل يوم في مسيرة أيامك الجديدة القشيبة، ورمال تذروها رياح المشاحنات، متراكمة على بياض فؤادك. وأنت لا تعرف ماذا تفعل إزاءها...». في قصة (الحمامة والغربان) لنجيبة الرفاعي تداخلت الضمائر وتناوبت في رصد ما يجول في أعماق شخوصها من مشاعر متباينة مختلفة، فاستخدم ضمير الغائب في قهر أحلام، وتحطيم إرادتها من قبل الأب والأخوة: «لمن تتركين كنس الغرف وغسيل الثياب وخدمة الضيوف؟!..ماذا ستفعل لنا شهادتك؟..بماذا ستنفعنا كتبك ودراستك؟!!..». وفي قصة (انتبه لنفسك) لمحمد المر يميل السرد إلى توظيف ضمير المخاطب للتعبير عن حالة القهر والغيظ المتفجر من أعماق الأب الذي يرى ابنه فاشلا ولا يصلح لشيء فيشبعه لوما وتقريعا وانتقادا: «متى ستنتبه لنفسك..متى ستعمل..الشباب الذين درسوا معك، أين هم الآن؟ وأنت تحولت إلى بغل لا يعمل يأكل وينام..أعوذ بالله، أنت الكسول لن تستطيع أن تعول نفسك فكيف تعول أناسا آخرين.. أتريد أن تمضي حياتك هكذا كأنك فأر في جحر، انتبه لنفسك يا مخبول، أي حياة هذه التي تحياها، قارن نفسك بزملائك وأصدقائك في الحي، أنت تعيش حياة الجمادات...». استعانت القاصة شيخة الناخي في قصة (للفرح لغته) بضمير المخاطب متخذة شكل المونولوج الداخلي ومناجاة النفس في أعماق الفتاة الابنة التي ستفارق والديها وتتزوج، فتعبر من خلال نجواها الذاتية عن لواعجها النفسية: «سأفتقد وجهك يا أبي، سأعيش على ذكريات أماسيك الحالمة يوم كنت تجمعنا حولك لتعطينا دروسا في الحياة، كان قلبك كبيرا يتسع لنا جميعا أمي وإخوتي وأقاربنا وكل من تعرفهم...». وفي قصة (سفر الأسفار) لناصر الظاهري، ينجح البطل في استثمار ضمير المخاطب من خلال مخاطبة نفسه وهو يثني على شجاعة والده ومواقفه العصيبة في حياته، ويجسد معاني الإعجاب والتقدير التي يستحقها والده بجدارة: «آه...آه يا أبتاه.كم عجيب انت..تموت ويظل عرقك ينبض بالحياة..لكي لا تموت الأرض..لكم أحسدك على الشجاعة التي تتحلى بها، الفرق بيني وبينك.. أنك ولدت رجلا على ارض صلبة بينما خرجت أنا من بطن أمي غصبا...أبتاه يعز علي فراقك..». يعبر الابن عن الهواجس الذاتية والتأملات القلقة الحائرة التي تؤرقه فيقارن نفسه بوالده لترجح كفة والده الشجاع المعطاء. أخلص مما سبق إلى أن منظور الراوي مفهوم فني يشير إلى التحكم في السرد بالضمائر الثلاثة التي تكشف عوالم الشخصيات وحالاتها النفسية، وتسهم في إضاءة العوالم الداخلية والخارجية للشخصية، فضمير الغائب يعد الأيسر استقبالا لدى المتلقين والأكثر تداولا، حيث يكون الراوي أكثر اطلاعا بالأحداث وتفاصيلها. ولضمير المتكلم القدرة على إذابة الفروق الزمنية والسردية بين الراوي والشخصية من خلال إحالته على الذات وتوغله إلى أعماق النفس البشرية، وضمير المخاطب ربما يكون الأقل ورودا في القصص إلا أنه يفتح بابا للحوار الداخلي أو الخارجي فيتيح لنا الكشف عن الشخصيات وما يجول في أعماقها وفكرها. وثمة قصص أخرى توسع فضاء البوح باستخدام نسق التناوب والانتقال بين الضمائر ويرجع هذا الأمر إلى أسلوب القاص في اختيار زاوية الرؤية وطرق القص. إن المراوحة بين الضمائر الثلاثة في السرد القصصي مسألة جمالية فنية واختيارية لا إجبارية، وهي تحقق قدرا من الجودة العالية لعمل الأدبي بالتضامن مع العناصر الفنية الأخرى. .................................... مراجع وإحالات 1- مالك أبكر: فيصل، الراوي ووجهة النظر في السرد القصصي، شؤون أدبية، اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، العدد 55، ص6 2- الرقيق: عبدالوهاب، في السرد: دراسات تطبيقية، دار محمد علي الحامي، تونس، 1998، ص102-104. 3- محمود: عالية، البناء السردي في روايات الياس خوري، أزمنة للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2005، ص172. 4- الرقيق: عبدالوهاب. 5- عزام: محمد، فضاء النص الروائي مقاربة بنيوية تكوينية في أدب نبيل سليمان، دار الحوار للنشر والتوزيع، دمشق، 1998، ص80-81. 6- البنا: بان، الفواعل السردية (دراسة في الرواية الإسلامية المعاصرة)، عالم الكتب الحديث، الأردن، 2009، ص105. 7- يوسف: آمنة، تقنيات السرد، ص34. 8- مالك أبكر: فيصل، الراوي ووجهة النظر في السرد القصصي، ص 10-11. 9- مرتاض: عبدالملك، في نظرية الرواية، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1978، ص177. 10- هويدي: صالح، تجليات العزلة في الشخصية القصصية، مجلة الرافد، الشارقة، العدد 104، ص90.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©