الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

جون ستاروبنسكي.. أو كيف يتحدد جمال العالم؟

جون ستاروبنسكي.. أو كيف يتحدد جمال العالم؟
16 ديسمبر 2016 23:15
أحمد عثمان (باريس) قبل أسابيع قليلة، عن مطبوعات غاليمار، صدر كتاب «جمال العالم، الأدب والفن»، في 1300 صفحة لجون ستاروبنسكي، «أحد أكبر نقاد الأدب الناطقين بالفرنسية في القرن العشرين»، على حد تعبير الشاعر والفيلسوف مارتان روف، الذي أشرف على تحرير الكتاب. كتابات أنجزت ما بين 1946 و2010: هذه الأبحاث النقدية تبين بطريقة مثقفة عظمة تجربة الإعجاب والكشف عن الخفايا الإبداعية. منذ كتابه الأول الكبير «جون-جاك روسو: الشفافية والعقبة» (1957)، ظل جون ستاروبنسكي، المولود في جنيف 1920، مرتبطاً بفكر أجيال طلاب الآداب في عصر الأنوار، بقدر ارتباطه بتاريخ السوداء Melancolie، الموضوع المرتبط بمهنته الثانية، طبيب أمراض عقلية، كما يشهد على ذلك كتابه «حبر السوداء» (2012)، المأخوذ عن أطروحة الدكتوراه. لهذا، لا يوجد أي سبب لحبس جون ستاروبنسكي في هذا المجال الضيق الموزع بين العبقرية السوداوية والهذيان العقلي. كمتخصص في روسو، وأيضاً في ديدرو ومونتسكيو، «جدلي الأنوار»، ستاروبنسكي «بودليري وسط البودليريين» على حد تعبير مارتان روف، فبلولوجي، أسلوبي، عالم موسيقي مغرم بسحر الأوبرا، صديق الشعراء. حدوده لم تنغلق أبداً، وهي محددة بمعايير ثابتة خارج مقدرته على الإمساك بكل ما يقرأه، ما يسمعه وما يراه. هي ذات الثلاثة معايير التي تبني هذه المجموعة من المقالات. «قراءة»، بالنسبة للكاتب، هي مواجهة أعمال روزنار، بودلير، آندريه شنييه، مالارميه، آندريه بروتون، فيليب جاكوتيه، باول سيلان، كافكا. «رؤية»، أي إضاءة لوحات غويا، فان غوخ، بيسارو، بالتوس وغيرهم. «سماع»، أي أن يترك موسيقى مونتفردي أو موتسارت تهدهده. ما وراء هذه الموضوعات المنثورة، هناك شيء ما يربط بين نصوص ستاروبنسكي: «العلاقة النقدية»، في استعادة لعنوان إحدى دراساته الكبرى، الصادرة في عام 1970، حسبما ذكر مارتان روف بدقة في مقدمته للعمل: «ستاروبنسكي ليبنيتس خاصتنا – أحد آخر ممثلي العلم العام، المعرفة العميقة والكاملة عن الإنسان وتعبيراته». إذا كان النقد الأدبي يشكل على الأقل منذ ديدرو وبودلير جنساً أدبياً بذاته، لذا من اللازم أن نعرف كون هذا التقليد تلاشى اليوم (يكفي اليوم قياس الاختزال الجاري للفضاءات الثقافية في غالبية الصحف منذ عشر سنوات). كأننا لا نعرف أن ستاروبنسكي لم يكف طوال حياته عن الدفاع عن الفكرة القائلة بأن الوضوح والحساسية غير متعارضين. بقدر ما يوجد عقل لما هو حساس، توجد حساسية العقل. «أنهما مترابطان»، هكذا كتب روف. بالنسبة لستاروبنسكي، يتم تدوين الأدب والفنون على وجه العموم داخل حركة تاريخ الأفكار. اذ «من الصعب كتابة تاريخ المعنى بصورة غير متسقة مع تاريخ أشكاله»، كما لاحظ مارتان روف. منذ فلسفة روسو حتى موسيقى سترافنسكي، منذ سوناتات روزنار حتى لوحات بالتوس، منذ صور الجناس التصحيفي لسوسور حتى مفاهيم التأويل الرئيسية، لا يبحث ستاروبنسكي عن ترقية أطروحة جامدة بطريقة تعليمية أو عقائدية. يتعلق الأمر «بتعميق وتوسيع ثغرة الأسئلة المطروحة بمتابعة الظواهر، والاندهاش بتفجرها كأننا نترك أنفسنا لجمال العالم». هذه الوضعية الأخلاقية والتطبيقية لستاروبنسكي تقترب من مثيلتها الخاصة بالفنانين أنفسهم. في هذا الصدد، ستاروبنسكي، بما أنه ناقد، يظل قبل أي شيء كاتب. «أمام جمال العالم وكل ما يهدده، لدينا حق النقد»، كما أكد روف، «النقد لكل صور الحب في العالم». لا يستنفد النقد خافية العمل، بل يحاصره، يلمسه، ويولد قوته الانفعالية. عن رونيه شار، كتب ستاروبنسكي: «لا توجد أي قصيدة، أي بيت شعري لرونيه شار لا يمنحنا الشعور بالانفتاح. فضاء مزيد يتبدى أمامنا، ينير دواخلنا. هذا الفضاء ممنوح لأعيننا المفتوحة (...) شيء ما من الكبر، من الكثافة، يظهر بإلحاح». من الممكن تطبيق هذه الملاحظات على كتابة ستاروبنسكي نفسه. الاهتمام الذي يحمله للومضات الجمالية للعالم حامل لهذا الشعور بالانفتاح لدى القارئ، المثقف والذي نشأ على فن النظر والاستماع: باب للدخول إلى وضوح الحياة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©