لا تنظر وراءك. أيها الرجل الجالس قبالة البحر، لا تنظر وراءك. فلقد تكدّس الفقراءُ على باب النصيحة، ولم ترتو آذانهم بالحكمة المرتجاة، ولم ترم لهم يد الصُدفة مفتاح الذهب. والكتب التي خبأ الفلاسفة بين حواشيها زبدة المعنى، أحرقها الخائفون من البياض، ونثروا رمادها في عيون الأطفال الذاهبين إلى درس الأمل. لا تنظر وراءك، لأن المرأة التي رسمتها شمساً على دفاتر الطفولة، كبرت سريعاً، وغرقت في مناديلها، وأكلت أصابعها الوحشة، وجفّ حبر غنائها وهي تناديك في الممرات وأنت تنأى. وتهتفُ باسمك وعداً في المسرات، لكنّك تنشطر. ولا تدري هل في الجنوحِ نجاتك، أم في الركونِ إلى الصمت لذّة منفاك. فقط لا تنظر وراءك. صفّق إن أردت للموجة، وهلل إذا أحببت للمدّ، ولكن لا تنتظر أن يرمي لك الناجون حبلاً لأنهم سئموا من غرقى الرمل، ومن الواقفين على عتبات الأماني وقد تخثّرت خطواتهم في المكان نفسه. وهذه السفن التي تراها وهي تشقّ عباب المسافة، لا مكان على ظهرها للمترددين مثلك. وهذه النوارسُ الموشومة بأجنحة الرحيل، لا تكترث لو ودّعتها بتلويحة خجولة، أو ناديتها: خذيني. ولأنك أسير الحذر، ولأنك بلا قلمٍ عصيّ على الكتم، ولأنك بلا مجاديف تهاب الانكسار، ستظل جالساً هنا للأبد. حتى الكلمات التي جربت أن تخلّدها على صفحة الماء، سترى أنها تُجرف وقت انحسار الزرقة، وهي مثل صوتك، مجرد محوٍ بعد همس، ومجرد نبسٍ عند اشتداد الهدير. لا تنظر وراءك للمدن التي يزأرُ البرقُ على ناطحاتها، وهي لا تهتزّ بسكّانها النائمين في خدر الطمأنينة، بالنادلات وفي أرلجهن حِجلُ الغواية. بالمدرّس الأبكم ذي الراتب الخرافي، بالطبيب المريض بجشع العظام. بالنفايات الأنيقة. بالمدللات الصغيرات يحملن كلب الفرو ويطعمنه الآيس كريم. بالهاكرز المندسّين في كمبيوتر مطفأ. وسوف ترى أكثر من ذلك حين تُغمض عينيك. باعةُ الوهمِ وهم يطلّون أقنعةً من الشاشات. عجائزُ يخرجن من كراج التجميل أكثر نضارة من حبيبات الصبا. ومدراءٌ يسعلُ الطاووس إذا مشى بينهم. بينما أنت، أيها الشاعر الجالس قبالة البحر وفي يدك سكينٌ من ورق، ترى اكتمال عزّتك في النسيان المر، النسيان الذي إذا دخلته تطفحُ في ذكريات المستقبل، وتبدأ بتشييد مجدك في القصيدة تلو القصيدة. وينبتُ لك بعدها جناحان أبيض وأسود، وتصير السماء دربك وأنت تعبر مجراها من بحرٍ لبحر.