باليد التي رفعتها كي تُمسك الغيمة. بالقلب الذي فتحته كي تُطلق سرب عصافير خضراء. وبالفم الذي عضَ على ضوء الحقيقة ونطق بها وأشاع بين الساكتين فحواها. جئت إلى عيوننا أولاً على شكل رجلٍ فيضُه الماء، وكلماته نقد العتب، وصمته خرير حرير. ومن الفصحى التي شققت لها عرقاً في جوارحنا شربنا لذّة المعنى، وأدركت الروح أن صفاءها يسكن في القصيدة المتشظية، وأن قيامة الكلمات تبدأ حين يُلوى لسانك، وحين يكمم المتحجرون تدفقها من نهرك السيّال. وأنا أحتارُ كيف أسميّك يا شاعر المنفى وأنت من كل جهةٍ نبأ. في الشرقِ محرابك خاوٍ، والجالسون من حولك يصفقون بأيادٍ مقطوعة وفوق رؤوسهم حرّاسٌ، ومن بينهم سماسرةٌ ومدسوسون. وفي الغرب أنت منارة أصلها شمعةٌ، نارها رأسك الشمسي. ومن الشمال إلى الجنوب، تمرحُ خطوتك العملاقة فوق جسد المسافة، ويكون وصولك قبل الوصول، ويكون خروجك هو دخولك في اللا دخول. قل النثر، وعلينا أن نعلقه في القلائد فصّاً. وقل النص وسوف نرى الأقلام المائعة تركضُ في طوابير فرارها نحو الشحوب. ثم قل النص عافيةً جديدة تسري حليباً في حنين الأمهات، وتروي عهد آتين. وُلدنا بين تلّتين من رملٍ وثلج، وعلى ظهورنا كتب الأولون سياطهم، وعلى دفاترنا لم يكن البياضُ نقيّاً كي نسبح مطمئنين في أماني المستحيل. وبين جبلين من نارٍ ونار، كان علينا أن نعبر مغلولين بالحيرة، وفي أرجلنا ثقيلاً قيدُ السؤال. وعلى رؤوسنا متنافراً تاجُ أشواك ماضينا الذهب. هي شهقةٌ واحدةٌ وبعدها يزول العجب. هي ربتةٌ هادئةٌ على كتفك من يدٍ تثق بها، وبعدها تهدأ أمام مشهد القتل الجماعي. وربما نراك صنماً في حضرة الراديو، لا تهزّك موسيقى الفوضى، ولا يثور ضميرك حتى لو وخزوه بأصبع الغدر. والذي ستكتبه بعد ذلك، مجرد غبار على جدار، عجاجٌ تضيقُ لرؤياه عين الحمامة قبل أن تسقط مثل حريةٍ جريحةٍ قرب أوراقك البالية. تعال عرساً أو لا تجئ، طبّب نوايا الندم، وعلّق صور الطفولة على جدار أزرق. وصور الشباب على جدار أحمر. وبالكُم الذي مسحت به عرق نجاتك من الشقاء، امسح نوافذ المستقبل وسوف تراني أناديك من كتابٍ بعيد وفي عنقي حبل انتظارك. وربما سمعت استغاثة مهجتي: أقبل. جرجر الخطوة حتى لو ببطء السلحفاة، ولا بد تصل.