أيام الهند الجميلة، أيام الدراسة الأولى في الجامعة، أيام الشباب الغض، أيام الكشيش، والبنطلونات الشارلستون العريضة من تحت كقبعة مكسيكي، والقمصان المشجّرة، المزررة، أيام الجاهلية الأولى، كانت الرحلات إلى بومبي في الإجازات الدراسية، والإجازات الطارئة التي تأتي كهدايا غير منتظرة، كثيرة ودون ملل، فقد كنا نجد، كما وجد الشواب قبلنا، أن بومبي ما لنا عنها غنى، والملتقى فيها مبيوح، على رأي الشاعر. نفس هذه المدينة التي تغير أسمها إلى مومبي حديثاً، تغير زوارها أيضاً، لكنها هي لم تتغير، ولا تتغير أشياؤها بسهولة، فالهندي الذي يفتح باب دكانه الخشبي المتقشرة ألوانه من السادسة صباحاً، لو غبت عنه 15 سنة، فستجده على نفس الجلسة، ونفس البضاعة، ونفس الدكان، سيماء المدن الصاخبة أنها تبقى على رونقها، وعليك أنت أن تتحملها كيفما هي، قد تتغير أنت، ولا تعد تأتيها كعادتك، لكنها لا تتغير، وستنتظر قدومك، وهي على حالها. في هذه المدينة المكتظة بكل شيء، كنت أسكن غالباً في فندقين مشهورين، بعد أن تمرنت أولاً على فنادق بومبي بنجومها الزائفة نظراً للحاجة، وما يشتهي الشباب، ويضحي من أجل بغيته، ونزلت في فنادق «مسافر خانه» نظراً لميزانية الطلبة التي لم تكن دوماً فائضة، العجيب أن أطيب شاي كرك تتصبّح به في نهارك، وأسخن خبز يمكنك أن تأكله حافاً «جباتي أو براتي أو رمالي أو نان»، وألذ أكل هندي بأنواعه المعتبرة، بحيث يجعلك تتمنى لو أن الوجبة القادمة بعد نصف ساعة، كنت تجده في هذه الفنادق التي بلا نجوم مرصعة، وفي المطاعم الفقيرة الشعبية، لكن بقي فندقان هما «تاج محل»، و«الأوبراي»، كمنزل مؤقت لمسافر عادة لا يصيبه الملل بصعوبة، أو هما ملاذ لطائر يغوى الريح، ويهوى الترحال على مهل، الأول قديم، وذا طابع معماري «كولونيالي»، وإرث هندي مهراجي واضح، يجمع في ردهته التجار التقليديين، وزواّر بومبي من العرب الأثرياء، أو المتمارضين، وطالبي الزواج، فقد كان يومها الزواج من الهند موضة، كما يجمع العائلات الميسورة، والإرستقراطية الهندية التي تصرّ على اغتنام تلك المنفعة التاريخية، أكثر من مخترعيها الإنجليز، كانت الردهة وصالة الاستقبال تشدخ من العود والبخور ودهن الورد، ودهن العود، فلا تعتقد حينها إلا أنك في مكسار عرس، أما الثاني «الأوبراي»، فقد كان فندقاً جديداً وقتها، وببرج وحيد، وربما كان أعلى برج في بومبي، له طابع عصري، يؤمه نجوم السينما الهندية، و..