بجناحين من ريش المسافة، بخطوتين من رمل، وبترنيمة تمتمات، يبدأ المسافر يشق الأرض بحثا عن السر. عن الجوهر المخبوء في الذات الذي لا يُعرف طريق الوصول اليه من أين. يدخل المسافر بحرا ويصارع موجته وغرورها ويراها تصير زبدا، فيدرك أن المشي فوق الماء هو وهم من غرقوا في أول الرحيل، وأن المراكب لا يحمل في بطنه سوى الضائعين ومن فقدوا عادة الرسو حتى صارت الموانئ لهم أوطانا مؤقتة. ومن يعش في المؤقت، لا يستقيم له مدى، ولا يثمر له مكوث. ثم يدخل المسافر في الدائرة، فيجد البدايات مجرد تكرار، والناسُ مجرد حصى في طاحونة الأيام، ولا يفلت منهم أحد إلا أولئك الذين يدحرون الرتابة قبل ان تعتادها الروح. ومن فكرة الدائرة يدرك المسافر أن الانفتاح معناه أن تخرج من قيد ذاتك، وأن تيمم وجهك باتجاه الشمس دائما فلربما وصلت يوما الى منبعها الصافي، ولمست فوق مراياها حقيقتك الضائعة. بيدين تجمدتا وهما تلوحان في الوداع، يدرك المسافر انه حين يغادر بقعته الأولى، إنما ليعود اليها ذات يوم أكثر عزة وفي يديه كنوز الأساطير البعيدة. لكنه حين يعود، لا يرى أحدا في انتظاره، وتكون مراتع الصبا خرائب مهجورة، والبيوت القديمة سكناً للأغراب، والحبيبات اللواتي هاجر من أجل الفوز بلمحة من عيونهن، تبخرن جميعهن في نشيد الزمن الضائع. من إليك أيها المسافر، وقد تعطلت رؤاك وأنت تنظر من نوافذ القطارات ولا تجد غير دفاتر الغربة سيرة لمنفاك. كل مدينة دخلتها بحثا عن الميزان، رمتك شريدا على أرصفة المتاهة. وكان البردُ يلفحُ أحلامكَ، والريحُ تلعبُ بشمعة أمانيك، والنار التي ظننتها دفئا، حرقت رسائلك الطويلة حتى صار الحنين رمادا. وهل كنت ذاكَ حقاً، حين نظرت في الواجهات ورأيت ما يشبه وجهك معكوسا في الزحام المر، وأنت صامت وسط ضجيج لا يطاق. والنساء اللواتي صافحتهن بيد مرتعشة وبلسان ألثغ، عرفن منذ أول لحظة أنك غير جدير بالبقاء في كوكب الحب، وان روحك طائر أخرس يغادر خلسة في الليل ويختفي في سرب نجوم آفلة. يا المسافر، اجلس قليلا ودع القطارات تمضي لمستقرها في النسيان. افتح حقيبة عمرك واقرأ من جديد أوراق ايامك الباقية، فلربما ادركت قبل نهاية الطريق، أنك لست أنت الآن، وأن حياتك مجرد ورقة في خريف الجفاف.