نافذتي تطل على الليل، وحدها تعود بالذاكرة الى أدراج الكتابة الأولى، إفرازات المساء أمام لآلئ البحر، ترسم أسرار أفكارك البكر، لتجد الموج الأزرق المسكون بالبدء المسحور بالسواد وزفاف الغيوم تراقص النجوم، بينما للقمر مجرد عين ترتجف أمام خيوط المحطات المسترسلة إلى غير نهاية مطلية بحبر الكتابة المستنيرة برائحة الاستشراق وألم الغربة. ما زال البحر يسكن سفينة السندباد، ويعبث بكتب الذكريات، وقد ألفت شباك الصياد المد والجزر، لكنها لم تألف التكبيل ولا القيود ولا العتمة المفرطة، ولم تأنس إلا للخيال المفرط، والذي يأتي على قدر الحكمة، وتأتي القصص من بحار إلى بحار لم تهرم ذاكرته، ومن عشق البحر يظل متيقظاً أمام جذوة الوقت، ظل الليل ساكناً أرجاء المدينة. نفحات الروح شرعت نحو جذوة التشظي، لا صوت يعلو هدير الموج. أصوات المدينة تنكرت للطرقات، بينما تمرد آخر المتسكعين على الليل، وظل حافظاً للبيوت وأقفال الأبواب وسمات النوافذ.. مجرد عبارات لفظها على أبواب المحال المتشحة بغربة الليل، فيها من البوح كلمات شعرية تقاسمها الزمن، وصدور الفتيات المنسية كالدفاتر القديمة. مناسك السهر مازالت تطل من نافذة الليل، ومتدفقة من حبر يشعل الذاكرة.. شارع الكورنيش له حلة أخرى من زاوية الكتابة العاشقة للماضي.. للوجوه التي أخذها السفر وعادت أو لم تعد وقد طواها النسيان، وأيقنت بأن سفر الحياة أجمل السواحل على الإطلاق. من نافذة الليل أطل على محطات جميلة، وتطل وجوه يذكرها من سكن المدينة. وجوه لا تنسى، مرجان بائع الأكلات الشعبية الذي كان يتخذ من زاوية النافورة ملاذاً له بعيداً عن عيون التجار، ليتحلق حوله الناس أو بائع المبردات أو بائع آخر وفر لهم الفول السوداني أو وفر لهم ألعاباً لأطفالهم.. حياة تعود بي إلى رائحة البحر القريبة من المدينة.. لم يكن الناس بعيدين عن أمواج رسمت طقوس الحياة، وتقاسمت نسيج الطبيعة وروحها. لايمكن لنافذة الليل أن تغفل عن أن السوق القديم، جار البحر الذي يظل مكوناً أساسياً من مكونات الذاكرة الحميمة على الرغم من اختفائه.. نافذة الليل لا تنسى أيضاً كل من مدّها بصور ترسم المحال القديمة من بائعي القماش والذهب المتلألئ والمطاعم البسيطة.. فمن هنا نبض قلب المدينة بالذكريات وبالأماني والمعاني، وإذ تستوحي النافذة الليلية هذه السطور فلعلها ترسم على الوجوه شغف الحاضر للماضي الجميل..