هناك محطات فارقة في تاريخ كل بلد. في الإمارات لدينا ثلاث مراحل فاصلة. الثاني من ديسمبر 1971 يوم إعلان الاتحاد وإنشاء الدولة. حين صرنا شعباً واحداً له كيان وحدود واضحة. صارت لنا هوية؛ صرنا «إماراتيين». الثاني من نوفمبر 2004 يوم وفاة زايد. مؤسس الدولة وبانيها وقائدها وحبيبها وأب كل مواطن فيها. الرجل الذي كان إنساناً قبل أن يكون قائداً، كانت وفاته مرحلة فاصلة في حياة كل مواطن، وكل مقيم، وكل من عاش هنا أو عرف زايد عبر مشروعه القيادي الخاص الذي تميز في المحيط العربي بانتصاره للإنسان، ويتمنى رضاه فرضينا عنه جميعاً وأحببناه حب الابن لأبيه والأخ لأخيه والجار لجاره، توجّنا المحبة باحترام وتقدير يرتقي لقيمة زايد. مات زايد، واستيقظنا على نهار جديد فارغ منه، ولكنه ما لبث أن امتلأ بأبنائه يسيرون على نهجه، نقول في خليفة سجاياه، ومحمد أقربهم شبهاً به، ولكن عبدالله يأخذ منه الكثير أيضاً، وفي منصور منه أكثر، نقول الضحكة هي ذاتها، النظرة في عيني هزاع، وسيف وحمدان، وسلطان وحامد وأحمد، وسعيد وعيسى وناصر وطحنون وعمر وخالد.. نتوسم فيهم روحه، ونحبهم كما أحببناه، ونقول هم سقف هذا الوطن. في الرابع من سبتمبر 2015 كانت الإمارات على موعد مع محطة فاصلة جديدة. محطة ستغير بوصلة الرؤية، واتجاه الروح. مرحلة جعلت للوطن، معنى الغطاء الذي يدفئنا جميعاً في ليلة باردة. كان يوم جمعة، وكنا ننتظر انتهاء الصلاة ووقت الغداء، لنستلقي بعدها في اطمئنان نقضي الإجازة الأسبوعية كأي إنسان فرغ من شغله واستلقى ليستريح، حين جاء الخبر. عشرون، ثلاثون، أربعون.. لا، خمس وأربعون شهيداً إماراتياً... وأكثر من ستين جريحاً!. لم نكن دعاة حرب، وليس لنا تاريخ في مفردات الحروب. ولأول مرة ترتبط كلمة «إماراتي» بمفردة شهيد وجريح. الصباح الذي تلى الخبر، كان كالصباح الذي تلى رحيل زايد. اتشح الوطن بغمامة حزن. وكنا جميعاً نسير كأن تلك الرصاصات اخترقت أجسادنا، وكأن تلك الأشلاء المتناثرة هناك...هي أشلاؤنا. نحن حزينون جداً. ولكننا نختلف الآن. نتشكل من الداخل. يعاد بناء خارطتنا النفسية. لقد صار لدينا جنود يذهبون للحرب ويعودون منها شهداء. على بدلهم العسكرية آثار دماء، وصار لدينا أمهات يكبتن الدمع، وآباء يدفعون بأبنائهم الباقين إلى أتون المعركة فداءً للوطن.. طاعةً للقائد.