للثقافة صلب البقاء وصوت النقاء، وسط الانتماء، وعبارة مجللة، بثوب الولاء. عندما تخبو الجهات، تضيء الثقافة مصابيح الوجود بجود ونجود، وتزهر الأغصان على طَرْف وحرف، وتنمو أشجار الأمل، كما هي الأنامل الموشاة بخضاب الناعسات الكواعب. للثقافة، وجد ومهد، وسعد، وحد وسد، ومد ومدى، يمتد في القاصيات من الروابي، والسَّهل، هي في البدء كلمة، مكللة بالفكرة، ومن الفكرة اتسعت حدقة الحضارات، وصار الإنسان طائراً يحدق بعيني الطموحات الكبرى، ويخفق بأجنحة القيم العالية، ويشيع التغريد، كي يصحو العالم من غفوة الأفكار المغلقة، كي يسرد الكون قصة النهوض في الليالي الدامسة، بحثاً عن وجوده، سعياً وراء الضوء المتدفق من وعاء الكلمة المتألقة، الراشفة من عذب التواصل، ما بين الأنا والآخر. للثقافة، مكان في القلب، موئل في العقل، مسافة واسعة ما بين الوعي والجهل، وحلم الأقمار، عندما تكون السحابات داكنة، وعندما يغازل المطر حبات التراب، كي تنجب أعشابها الخضراء، وكي تغادر اليباب والعذاب، والضباب والاستلاب، ولا انتساب إلا إلى حب الإنسان للإنسان، وتآخي الأرواح، منها تنبت أزهار الحياة، وتزهر الحقول، والأصول، والسهول، وتبني الجبال أوتادها من نسيج العرفان، لابن آدم الذي غادر كهفه، ليسكن الموائل المترفة. للثقافة صولة الفرسان، ونخوة الشجعان، وصبوة الأشرعة، ونشوة السفن المترعة، بمواويل الذين عشقوا وما كرهوا، واشتاقوا لبياض الموجة، بحثاً عن رعشة الزعانف ساعة ابتسامة الماء لليابسة، ولحظة الوشوشة حين تفتح مهج المحارات صحائف الفرح. للثقافة فتح وقدح، وسفح، وكدح، وكبح ووضح، هي في المجمل عقرب الساعة، يذكر ويبحر، ويسهر، ويدحر، ويكبر كلما كبرت الطموحات وازدادت عملقة وحملقة، وتدفقاً وتألقاً، لأجل أوطان تلوذ بالفكرة الناصحة، كي لا يلحقها أذى السادرين الجاهلين، البالغين بلوغ طائر البوم في الليالي العابسة، الذاهبين بالمعنى، إلى غايات أحلك من عتمة الليل البهيم. للثقافة خِصلة الأتقياء، والأولياء، والنجباء، للثقافة فن الذين يعزفون على وتر وسطر، ويخبئون في معطف الحب، أجلَّ ما يتمناه الإنسان وأعظم ما تتوخاه الأغصان.. للثقافة كتاب منضود بخضاب، وللثقافة جزالة الذين يفرشون السعادة سجادة من مخمل وحرير، وشراشف من خيوط الشمس، للثقافة باب مفتوح، مفتاح عقل إنسان ما أوصد، وما حقد، ولا عاش في كمد، ولا بدد، إنه الإنسان الكوني، إنسان الأبد، للثقافة محيط سفنه بشر، لا ترهقهم الموجة، ولا تكبحهم عواقب الزمن الفجة.