أتخيل لو أن أحداً من الأشخاص فقد هاتفه ماذا سيحصل؟ بالطبع سيقول لقد ضيعت نفسي. لماذا؟ لأن الناس اليوم أصبحت الذاكرة لديهم محصورة في قلب كائن صغير بحجم كف اليد. هذا الكائن صارت له السطوة والسيطرة على كل معارك الإنسان الحياتية، فهو حافظ للأرقام والأسماء والأماكن والصور والمشاهد، وحتى النكات والحكايات الهزلية.. وأعتقد أنه بعد حين من الزمن ستصاب الذاكرة بالضمور والذبول والتلاشي، وقد يتطور الأمر إلى وجود عقل بلا ذاكرة، بمعنى أن الإنسان سوف يجهل ماذا أفطر في صباح اليوم وماذا أوصته زوجته ليشتريه لها من السوبرماركت، وسوف تدور معارك طاحنة، وخلافات ومشاحنات قد تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه. الهاتف النقال نعمة ولكن بقدرة قادر يتحول إلى نقمة لأن استغناء الإنسان عن ذاكرته يؤدي به إلى مزالق خطيرة، ويدفعه إلى ركوب موجات عالية قد تطيح به وبمصيره، ولو عاد الأولون الذين يحفظون المئة بيت من الشعر، سوف يضحكون، ويسخرون، ويسخطون، ويولولون، ويصابوا بالإحباط، لأن أحفادهم، خبؤوا الذاكرة في محفظة موبايل، أشبه بلعبة الأطفال وصار يتحكم بهم وبسلوكهم. ومع مرور الزمن سوف ينسى الناس، الموبايل نفسه، ولن يستطيعوا العثور على مكانه وبالتالي سوف يلهثون بحثاً عن ذاكرتهم الضائعة، عن عمرهم المتلاشي في غضون شرائح معدنية دقيقة هي كل ما يحتويه هذا الجهاز السحري الرهيب. فأنا أتخيل أن مجموعة من الناس ضاعت منهم هواتفهم يسيرون في الشارع بلا هواتف، بمعنى بلا ذاكرة، فكيف ستكون أشكال هؤلاء الضائعين المضيعين؟ كيف سنراهم وهم يتخبطون مثل طيور حل عليها الظلام، فضاعت منهم بوصلة الوصول إلى الأعشاش.. أتخيل هؤلاء أنهم بعد زمن قصير سوف ينسون الطرق المؤدية إلى بيوتهم، وقد ينسون وجوه أطفالهم ومن ثم زوجاتهم وهنا تبدأ المعضلة الكبرى.. فأن ينسى إنسان وجه زوجته فتلك طامة تؤدي إلى حروب ودماء ومحاولات يائسة إلى الإخضاع وطلب المغفرة، وجدال عقيم، سقيم، لا يشفي غليل زوجة، ولا مجال هناك للاعتذار، إلا إذا فكر الرجل في حيلة «الهدية» التي يشع لها بريق العيون السود ويسيل اللعاب ولكن ربما يكون ثمن المصالحة باهظاً لا يكفيه راتب شهر بأكمله.