ليس أجمل من يوم طويل وسعيد تستغل ساعاته كلها في متعة معنى السفر، يبدأ بعد تناول فطورك في صباح مدريدي جميل، تكسب إشراقة ويقظة موظفات الاستقبال في فندق الـ «ريتز»، الذي عادة ما كان يسرق سريره الوثير ساعات الفجر الجميلة، تتركه غابشاً، محتلاً تلك الزاوية التاريخية التي تعدّ امتداداً للمتاحف التي تحيط به وتحاذيه، الحديقة الساكن فيها تمثال «GOYA»، وفنانون آخرون يزخر بأعمالهم متحف الـ «برادو»، في ذاك الصباح المبكر كانت هناك نسمة حانية تخرج من بين حنايا الأشجار العتيقة التي تعطي الشارع شيئاً من الأنس، وشيئاً من الروح، بعد خطوات ليست بالكثيرة تصل محطة القطارات «أتوشا» منطلقاً في القطار السريع «Renfe» إلى برشلونة، في طريق ستمتد أربع ساعات ملتصقاً بنافذة باردة هي فرجتك على المدن التي ستتوقف بها كـ «سرقسطة»، وقرى صغيرة متناثرة بقرميدها الآجوري، وغابات خضراء، وطرق متعرجة زاحفة نحو برشلونة، التي ستستقبلك منها ناطحتا سحاب تبدوان من بذخهما الزجاجي، أنهما مملوكتان لنادي برشلونة الذي تحب لعبه، ما عدا أن يكون نداً لـ «الريال»، خاصة غداً. تبدو المدينة أنها تتسم بملامح بعض المدن الإنجليزية أو الفرنسية الساحلية، بالرغم من لمسات أشهر معمارييها «Gaudi» الذي خطط تصميمها منذ عام 1880م، برشلونة تجمع مختلف البشر، تراهم في ساحة «لا رامبلا»، وشارع الممشى الممتد طولاً حيث الفرجة مع فكاهيي الحياة من فنانين، ومهرجين، ولاقطي رزقهم اليومي، تجبرك لوحات رسام إنجليزي على أن تتوقف عندها، تختار واحدة، ولا تستطيع أن تفاصله في سعرها، لأنه قرأ في عينيك طمع الامتلاك، يمتدحها ليزيد من حبها في قلبك، فلا تقدر على أن تبرح المكان إلا أن تأخذها ملفوفة في مخروط كرتوني، تهدأ النفس، ثم تتبع ظلال الناس البيضاء والباردة، ودهشتهم للقاء المدينة وأشيائها، وحين تتعب الأقدام، تجلس في مقهى على الرصيف لتناول وجبة غداء خفيفة لا تثقل الجفون، قبل أن تأخذك رحلة بحرية لساعات تبصر برشـــلونة من خاصرة الماء، وتمثال كولومبوس يشير بيده إلى بقعة سيكتشفها للعالم، تعود إلى ساحة كاتالونيا، وتركــب حافلة سياحية إلى الحي القوطي، حيث منزل ومتحف بيكاسو، وساحة مدريد، ثم السوق «El Corte Ingles»، وكنيسة العائلة المقدسة (Sagrada Familia) التي بدأ بناؤها عام 1882، ولم تنته حتى اليوم، يخيم الليل هكذا سريعاً لتكون برشلونة شيئاً مختلفاً، فتودعها مع آخر قطار متجه إلى مدريد بعد يوم من تعب مفرح، وسعادة ليتها كانت تطول، لأنها كانت من الرحلات التي تصرخ بك من بعيد: اليوم لي!، ولأن تلك الصغيرة أروى التي صارت تشكل علاقاتها مع عمرها الهارب للأمام، كانت تتوسد رجلي، مسافرة في أحلامها التي كبرت معها!