أتساءل دوماً ماذا لو لم يصل الإنسان إلى الدرجة التي وصل إليها في استخدام الكلمات والجمل، واكتفى بالنغمات الصوتية والتعبيرات التي يحدثها بوجهه عندما يشعر بإلحاح ما بداخله! كيف سيكون شكل الإنسانية؟ وهل - رغم ملايين المفردات التي نملكها - مازال في جعبة الكائن البشري المزيد من المرادفات التي تزيد من تفصيل التفصيلات التي تواجهه خلال يومه أو حياته! أسئلة مطروحة يؤكد المتخصصون بشأنها أن اللغة معول رئيس في بناء الحضارة الإنسانية، وكذلك في هدمها! وأن هذا المعول يتطور باستمرار، فاللغة كائن حي ينمو ويتمدد. المثير أمام كل هذا، أن نتمكن من التفرقة والتمييز بين المفردات التي نستخدمها، لأن الاستخدام الخاطئ سيجعل المعول أداة هدم بدلاً من أن يكون عكس ذلك؛ ومن تلك المفردات، مفردتا حاجة ورغبة. فهل ندرك حقاً الفرق والعلاقة بينهما؟! بعض الثقافات لا تميز كثيراً في الاختلافات المفصلية بين المفردتين، فتبدوان وكأنهما معنى واحد، فتختلط الأمور وتتيه الأولويات، فيصاب الإنسان بحالة عدم توازن وفساد في المعايير الأخرى المنظمة للحياة البشرية. الحاجات هي الأمور التي لا تستقيم الحياة إلا بها، كالحاجة للطعام والمسكن والتواصل والنجاح وغيرها من احتياجات رتبها علماء النفس وأكدت التجارب الإنسانية أن غياب عنصر منها يخل بإنسانية الإنسان. أما الرغبات فهي خيارات وأدوات متنوعة نلجأ إليها لتحقيق تلك الاحتياجات، وغيابها لا يؤثر على إنسانيتنا؛ ولكن وضعها في مرتبة ومكانة مُقحمة على حقيقتها قد يؤدي إلى تدمير الإنسانية. على الرغبة أن تأتي مُنفذة للحاجة الإنسانية ومُكلمة لها، لا مدمرة لها. لتوضيح كيف يمكن لرغباتنا أن تفعل ذلك، فلنتبع سِلم ماسلو للحاجات، كحاجتنا الفسيولوجية للطعام لنستمر في البقاء، هي حاجة ستتحقق عبر رغبتنا في صنف غير مفيد صحياً يضر أساساً في بقائنا! أو الحاجة إلى مسكن ،لأن ذلك يحقق قدراً مهماً من الأمان، فنرغب في منزل كبير وفارِه، نشعر فيه بعدم الأمن والخوف! أو نحتاج التواصل مع المحيط، فنرغب في امتلاك أفضل وسائل اتصال فنمتلك أدوات تُدخلنا في دوائر وحدة تعزلنا عن محيطنا! إن حدث ذلك -وهذا ما يحدث غالباً- فهذا يعني أننا لا نفهم إطلاقاً الفرق بين الحاجة والرغبة، ولا العلاقة التي يجب أن تكون بينهما. وهذا ما تلعب على أوتاره وسائل الإعلان والدعاية عندما يخبرونك أنك لكي تكتمل بإنسانيتك عليك أن تلبي تلك الرغبات، كامتلاك هذا الهاتف أو تلك الحقيبة أو تلكم السيارة، فتتحول بلا وعي إلى احتياجات، ومع الوقت ستشغلك تماماً لتجد نفسك وقد نسيت احتياجاتك الحقيقية لاهثاً وراء رغباتك.. فاقداً إنسانيتك.