تتكثفُ غيمة الآه على رأس المسافر، لكنها لا تهطل، ولا تبوح بمطر الفراق. وإذا هبّت الريح، تعود تتفتّتُ وتختفي فوق براري النفي. وما يزرعه المسافر في الطريق، مجرد حشوٌ وبقايا لغو وزبدٌ وتأتآت. والكلمات التي يزأر بها المسافر في ممرات الحنين، ما هي إلا غصة المرفوس من نعمة الثبات على الأرض. هكذا سيظل لزاماً على عينيه أن تسبِّحا بالرمد والرماد عند كل منعرج ومنحنى، ولزاماً على رجليه أن تدوسا في حقل الشوك إلى ما لا نهاية، ومن يحمل نياشين السفر والرحيل على جبينه، يدركُ أن الأرض مستطيلٌ طويل، وأن الحياة ركضٌ مستمرٌ في وهم الوصول، وما من وصول لمن قصّ الخوف سره. يا المسافر... وما الطائرات سوى قوارب في الهواء، فمتى ما صعدناها أصابنا مرض النأي، ودارت بين أصابعنا عملة المنفى، فانظر ماذا ستشتري بالكلمة الطيبة حين تدخل بلاد الصُم، وماذا ستبيعُ، وليس في يديك سوى القصيدة وبقايا خيالات قوّستك حدودها. لُذْ بالخطوة فهي الوطن المستمر في الذهاب، لُذْ بها وسوف ترى أن حرثك لا ينبتُ إلا في الورقة البيضاء، وما عداهُ ليس سوى انطفاء الحلم وتكسّرُ موجاته على ألف جدار. وليس مهماً أن تعرف من أين بدأ الكلام وفي أي صدى يختفي، بل المهم أن تعرف أن الصمت ليس له بداية، وهو الأصل الذي لو رفعت عشّك على غصنه، لا تعود العاصفة خوفك، ولا يهزّك بعدها صوت الزمهرير. أيها المسافر وفي جيبك حفنة أحلام صغيرة. ستطل من شرفة القطارات كلها، ولن ترى إلا ما يزول سريعاً في لمح الوداع، وحين تهبط في المحطات، سيسمّونك الغريب والعابر والمحمول على أعواد القش. سهل أن يكظ منامك الطبّال، وأسهل منه أن كمالك يكمن في الهشيم الذي تتركه النار بعد سعيرها. وأنت، من برٍّ لبرٍّ يختفي أثرك، والأسماء التي تكتبها كل ليلةٍ بحبر الظلال وتبحثُ من بينها عن وجهك الحقيقي، ستراها تزول ولا يشعّ من ذكرياتها سنى قمرك. هكذا ستظل تطرق على جدران الفراغ وأنت تهذي بأغنية بكى فيها العندليب، وستكتشف متأخراً بأن يدك مشلولة في تلويحة الوداع، وأنك في كل مرة، حين تظن الأرض تحتك مستقراً، ما هي إلا بقعة سراب أخرى في انقلابك على الأيام وانقلابها عليك. Adel.Khouzam@alIttihad.ae