في مقالي السابق قلت إن أكثر ما يخافه الناس هو التوحد بالنفس. وفي لهجتنا الشعبية نقول: لا أستطيع الجلوس (بروحي) أي مع نفسي، أي من دون وجود أحد. ويفزع الكثيرون حين تفرض عليهم الظروف البقاء في مكان منعزل، أو البقاء وحيدين حتى في بيوتهم!! وحين تسنح لهم الفرص لأن يجازوا من عمل، أو يذهبوا إلى نزهة أو سفر، فإن أول ما يفكرون به وقبل التفكير في المستلزمات الضرورية، هو البحث عن رفيق للسفر، حتى لو لم يكونوا على علاقة وشيجة به. إذ ماذا سيفعلون بأنفسهم حين لا يوجد من يأخذهم منها، من مواجهتها، من الوحشة القابعة حولها كسياج شائك! إنهم يخافون أن تجرهم النفس إلى داخل ذلك السياج الذي أقاموه حولها على مدار السنوات. وقد يكتشفون ذلك الصندوق الذي تختبئ فيه الأفاعي، كما قال أحد الأصدقاء ذات مساء موحش! في المشهد العام مشاهد لا حصر لها لوحشة النفس ونفيها. فإذا لم يجد الإنسان أنيساً إنساناً، وجد في ضجة الإعلام: بتعدد تقنياته، المرافق الدائم في النزهات، في السيارة، في غرف النوم. ضجة تلف به على مدار الساعات الطويلة وفي كل مكان.. أجهزة وآلات تنقل الضجة الخرقاء من صانعيها، إلى المستوحش والمستوحد! وفيما هي تلف معه على مدار العمر، تحبك سياج الوحشة حول النفس المقصية. قد يقول قائل: إذا كان التأمل يعني التفكير في أمر ما، فإن البشر عامة يفكرون، دون حاجة إلى العزلة. حسناً.. لنتفق حول هذا المعنى، فعملية التفكير خاصية إنسانية، لكن الفكرة في عملية التفكير العابر، المستعجل والمحاصر بالضجيج، لا تأخذ تمددها في الاتجاهات المتعمقة، إلا ضمن عملية التأمل، الذي من شروطه: عزلة المكان، وطمأنينة المتأمل من أنه لن يتعرض للاختراق الفجائي لأي بسبب كان. لذا لا بد للمتأمل من الترتيب والسعي لإقامة سياج من العزلة حول نفسه وتوحده بذاته. في التأمل ينشط العقل وتنهض طاقاته الخلاقة المبدعة، لصنع متغيرات حياتنا الفردية. المفكرون والمبدعون وحدهم يدركون أسرار التأمل واشتراطاته، أكثر منا نحن عامة الناس.. إذ ما من فكرة أو فلسفة أو إبداع يتسرمد في السيرورة البشرية، دون فعل التأمل الخلاق. والتأمل ليس فعل قطيعة مع الواقع وهو ليس السكونية والكسل ونفض اليد من العمل المنتج، بل إنه فعل لازم لتجميع القوى الداخلية والتحفز للانطلاق نحو فضاءات أوسع وأعمق. وإذا كان التأمل كمفهوم قد ارتبط بفلسفات التصوف منذ عصور الشرق البعيدة، فإن كل الفلسفات ما كانت لتكون، على تعدد غاياتها، لولا فعل التأمل وإشراقات الروح في عزلتها الأثيرة!