«النمرود» في الزمن الحديث ولى، بسبب مستجدات الحياة، وظروف التطور في العصر الجديد، فغابت إمبراطوريات الاستبداد، وغاب القصير الدجال الذي يريد من العالم أن يكونوا خدماً له ولعرقه الآري، غاب التسلط، ومن يهدد الآخر بالنفي والمقصلة، وغابت ديكتاتورية أميركا اللاتينية، وغاب رجال طامحون بعقول من فراغ، منهم من جوّع شعبه، ومنهم من أوهم وخدّر شعبه، ومنهم من اعتلى منصة الخطابة، ومسك بزمام الميكروفون، وضحك للصورة التلفزيونية، وهات يا خطابات، ويا أحلام خضراء، ويا مسيرات حمراء، ويا ألوية، ومنظمات، وعصابات سوداء، وفي الأخير رفع الرايات البيضاء، غاب من أراد أن يرهق شعبه بمعارك تاريخية قديمة، حتى جاءت أم المعارك فغاب مع غبار التاريخ، بقيت ديمقراطية بريطانيا، وأصالة تقاليدها، بقي دستور فرنسا، ونور الثقافة، ومشاعل الحضارة، بقيت سويسرا ملتزمة باحترامها، ومعتزة بكرامة مواطنيها، بقيت الحرية، والشفافية، والجميع واحد تحت سقف القانون الأميركي. الناس المتوهمون أنهم الأفضل والأنقى والأحسن والأجمل، لهم الجنة وحدهم، وللآخرين النار، الله ربهم وحدهم، وللآخرين قبض الريح، وقفوا محتارين فلا دنيا قطعوا، ولا ظهراً أبقوا، يظهر واحد من الطرف الآخر، فينعتونه بـ «العلج» يتعامل مع الأرقام الفلكية، وحركات مد البحر، والكوارث الطبيعية، وسير النجوم، وأخبار الغيوم، ويكون المطر، والحبايب ولا هنا، عيون مصابة بالرمد، فلا ترى النهار، ويغشاها العشو، فلا تبصر بالليل، وظهر آخر غيره، فنعتوه بالأحمر مرة، وبالكافر مرة أخرى، فيّسر لهم طائرات تجوب المسافات، وتختصر الوقت، وتتصل بأقوام لا يعرفون عنهم شيئاً، وسهّل التقاء العالم في قرية صغيرة، والجماعة ما عادوا يتفكرون حتى في الإبل كيف خلقت! يظهر آخر فينعتونه بالنصراني واليهودي والهندوسي والبوذي، يظل يسهر الليل كراهب متعبد، وفي النهار كفارس على ثغر، ليرصد دواءً، ويكشف عن داء، ليخترع ماءً بارداً، وظلاً لحرور الصحراء القاسية عليهم، ليبصّر العالم بشرايين مسدودة، وأخرى قابلة للانفجار بعد سنتين، يعطي للعلل شفاءها، ويعطي للإنسان راحته، والجماعة يضحكون عليهم؛ لأن بعضهم لم يختن! وأن لحم الخنزير جعلهم لا يغارون على نسائهم! وأنهم يعيشون التفكك الأسري، وأن مجتمعاتهم إلى زوال، وبئس المصير، قال الجماعة ليس هناك بار غيرهم، ولا أحد واصل الرحم غيرهم، و لا أحد عارف ربه ودينه وأخلاقه إلا هم، يا أمة ضحكت من مهلها وهملها وجهلها الأمم - على رأي المتنبي- ذاك الشاعر المنفوخ باللغة والكلمات، والذي رجموه قبل قرون بكل شيء، ولم يفكروا بقراءة نبوءته!