كان دكان «أبو الخير» يترأس زاوية مهملة في بدايته في تلك الحارة الصغيرة، لكن مع الوقت، ودبيب الأرجل عليها، أصبحت تلك الزاوية حجر الرحى في الحي، وصار دكان «أبو الخير» مع الوقت، وصفاً لأقرب شيء معروف، ومكاناً ظاهراً للغريب، فأي نعت لأي مكان في الحارة، إما أن يكون:«عِدّال دكان أبو الخير» أو «عقب دكان أبو الخير»، وحين يحتار المرء في وصف مكان لملاقاة ضيف، يظهر دكان «أبو الخير» فجأة أمام ناظريه. عدا أن دكان «أبو الخير» أصبح مكاناً للاستدلال، وضالة أي غريب، أصبحت الساحة الصغيرة الملاصقة له، ملتقى لكبار السن بعد صلاة العصر، يظل أبو الخير يشاطرهم جزءا من حديثهم الذي يكاد لا يتغير كل يوم من داخل دكانه، غير أنه مرات، وحين يشتد حماسه، يخرج رأسه من دكانه ويعلق، وحين يصير الأمر للحلف بالأيمان يظهر مرتدياً «وزاراً» ومقصرا قطنياً خفيفاً أثناء الحر، أما في الشتاء فيكون متدثراً بكندورتين رضف، وفوقهما صديري، وغترة صوف كشميري، يعقلها بعقال كيفما كان، لكنه لا يغادر قمة رأسه. في دكان «أبو الخير»، تجد «يواني» الرز الكتانية، والسكر، والطحين والقهوة، وصفائح السمن البقري، وكل ما يلزم البيت من مونة ومير، وفي جانب منه تجد الأقمشة الرجالية البسيطة، والتي لا تتعدى العشرين طاقة من القطن غالباً، وألوانها المتقاربة: الأبيض والسكري والبني والمعصفر، وهناك زاوية لأقمشة النساء: الأثواب والكنادير العربية والشيل، وحتى أقمشة البراقع والفرش والمطارح، وكلما سافر أبو الخير إلى الهند أو شيراز، زادت في دكانه بضاعة جديدة، نعال جلدية «أم سيرين» أو نعال «جَبَّلي»، ومرة أحضر من إيران معاطف طويلة لم يعرفها العرب، واعتقدوا في البداية أنها تشبه خيال المآتى التي ينصبونها في مزارعهم طرداً للطيور، ولكن في عز برد «المريعي»، ارتدى أبو الخير واحداً من هذه المعاطف الخبّازية اللون، والمبطنة بالصوف، فاستلطفها كبار السن، خاصة حينما يغبشون فجراً لأعمالهم أو يذهبون لصلاة الفجر في المسجد غير البعيد، كنت تراهم بتلك المعاطف أشبه بـ «السنترية» أو حراس الأسواق، من كان يغايرهم أولئك الذين كانوا يعملون في جيش «تي.أو.أس»، والذين يرتدون معاطف وبرية، زيتية اللون من مستودعات الجيش في قلعة الجاهلي أو من معسكر الشارقة، والتي كان أبو الخير يرفض بيع مثلها أو يشتريها من بعض الجنود في عز فاقتهم، كان يقول «ما أريد مشاكل مع الإنجليز.. لا أبيعهم، ولا أشتري منهم»!..