بعد تلك الوجبة البحرية المغربية التي شغّلت كل حواسي- كعادتي- قبل أن أتذوق أي أكلة، لكن هذه المرّة، لا أدري لماذا عطّلت كل حواسي، وهجمت أفكك عظامها؟ بقيت يداي تتحسسان وجهي من حين لحين، أخاف في لحظة غفلة مني أن ينتفش، ويغدو أشبه بالإنسان الأول أو «أورنج أوتان». من يومها زاد نفوري من السمك، وأطايب البحر، وثماره، وفواكهه، كما يسميها الفرنسيون، بعد ثلاثة أيام من حادثة التسمم، دعاني وزير الثقافة المغربي حينذاك الصديق «محمد الأشعري»، لوجبة غداء، وأراد أن يفاجئني، ويكرمني بوجبة سمك معتبرة، في مطعم لا يقدم إلا الأكلات البحرية، وما إن رأيت «الحوت» -على رأيهم- وتلك الكائنات المائية التي يمكن أن تمشي في غفلة منك، وتخرج من صحونها حتى اقشعر جلدي، وكدت أن أصاب بعدوى التسمم نفسياً، وعن بُعد، فشرحت للوزير قصتي مع حوت المغرب، فبدا على موظف العلاقات العامة بعض الحرج، وأراد أن يعتذر فجأة، فالوزير أراد أن يكرمني بوجبة سمك مثل تلك التي ذاقها في أبوظبي قبل سنوات، حينما أخذته إلى مطعم «أبو طافش» حين كان حيّاً يرزق على البحر، ومن البحر، ويومها شعرت أن ضيفي لا يريد أن يشبع من السمك عندنا، ولكنه تعب قليلاً، ويريد أن يستريح للمعاودة من جديد. ظل هاجس الانتفاخ المفاجئ يسيطر عليّ، وأحياناً يأتي كحلم «فانتازي»، فساكنت النفس، وبقيت إنساناً آخر، بدأ يتذوق اللبن الرائب، وعصائر الفواكه المبروشة، ويشرب الماء الفاتر، وبدلاً من فطور الحاجة سعدية: «مسمّن وبغرير وزبدة وعسل»، وكأنها تعمله لابنها الغائب خلف البحر، وتنتظر عودته من مهجر انتقائي، أصبح فطوري، فطور تلميذ وحيد والدته أرستقراطية، حبوب، ونخالة، وأشياء ذائبة في الحليب، لا تدري من أي غصن قطعت أو أي شجرة نبتت، لكن هذا الحال لا يستطيب لشخص مثلي يحب أن يشق شوارع المدن كعتّاليها، يبحث عن أشياء ضائعة، ومخفيّة، وأشياء جديرة بالتأمل والقراءة، ووجوه يريد أن يثبّت حركة الزمن عليها، يقلّب عدسة «كاميرته» ذات اليمين، وذات الشمال، يراوح بين يديه لثقلها، والتي يتمنى أن لا يغيرها الزمن ذات يوم، بعصا يتوكأ عليها، ويهشّ بها عن غنمه، وله فيها مآرب أخرى. قررت أن أداويها بالتي كانت هي الداء، وأن أكسر الشر، أو أُحَيّد العين - على رأي سهيلة- وبعد أيام معدودات جلست على ضفة أخرى من البحر الأبيض المتوسط، أتناول سمكاً في مطعم تونسي، متفرد كنسر هرم، والبحر قدامي!