من الأمور التي تعلمتها بعد عمر من الأسفار، والتردد على المطاعم الراقية، والمنتقاة، وذات النجوم «ميشلين»، إلى المطاعم التي تسكن الطرقات السريعة، والرخيصة، إلى العربات التي تُجر في أزقة الحارات الشعبية، بعد رحلة التخبيص في الأكل، قررت أن لا أتناول وجبة سمك، إذا ما كنت أشاهد البحر قدامي حينها، ولمعته الزرقاء تترجرج أمام نظري، وهي من الفلسفات الناقصة التي يتعلث بها الإنسان الشبع أو هي من محاذير النفس، وخوفها مما قد وقعت به يوماً. بالرغم أنني من «أكلي اللحوم»، الحمراء والبيضاء، ومفضليها على السمك، وكل ما ينتجه البحر من أعشاب وهلاميات ورخويات وأصداف، فإنني بين الحين والحين أقبل على السمك. لقد حدثت لي قصة في الصغر، فمرة جلب لي أبي غزالاً صغيراً، فتعلقت به، وبقي لعبتي وفرحتي بعد عودتي من مدرستي، لقد كبرنا في زمن معاً وسوياً، حتى مرة وحين رجعت من المدرسة، وجدت الغداء معداً فأكلت بسرعة، لكني أنكرت اللحم، فسألت عن نوعه، فقالوا لي إنه لحم الغزال، فشعرت أن أمعائي قد قلبت، وأن أحداً ما قتل صديقي، فأصبت بتقلصات في المعدة، وقيء، حتى شعرت بالحمى والفقد، وكآبة لم أكن أعرفها في ذاك العمر الصغير، فانحبست نفسي، وعافت أكل اللحوم، وظللت على ذلك سنوات طويلة حتى كبرت، وعدت تدريجياً لأكل اللحم. وقبل سنوات أصبت بالتسمم لأول مرة في حياتي من أكلة سمك في الدار البيضاء، وقد كان البحر بعيداً عن ناظري، وكنت أعتقد أن حالات التسمم من انتفاخ الشفاه، وإحمرار الوجه وتورمه، وحكاك الجلد مع سخونة مرتفعة فيه، من الأمور التي يبالغ فيها الممثلون في السينما، غير أن ذلك اليوم أيقنت أن ملامح وجه الإنسان يمكن أن تتغير في دقائق، لقد انتابني خوف من أن أظل انتفخ حتى لا تبين لي عين، وأغدوا أشبه بمصارعي «السومو» في ساعة غضبهم، أو فليبيني صحا من نوم متقلب، وقاسى طويلاً ليلتها، فأسرعت إلى المستشفى في جو كان ممطراً، وبعد أن لسعني الطبيب المغربي بإبرة - ولأول مرة لا أعترض على طبيب أو أحاول أن أثنيه عن استعمال الإبرة، والتعويض عنها بحبوب- هي ساعة وقدرت عيناي أن تبصرا الطريق، والعودة إلى الحياة الطبيعية، لكن النفس ووساوسها تبقيك متحفزاً، ومتوتراً، وعدوانياً تجاه كل الأشياء، تظل عيناك تحدقان في أي مرآة أو جسم لامع يصادفك، تريد أن تتأكد من خلاصك من التورم والإحمرار.. وغداً نكمل