- تظل تتفداك بـ «قلبي ونظر عيني»، حتى يخفت البصر، ويتعب القلب، ولا تتعب هي من تلك المناداة التي كان قلبها يخفق من خلالك لتتنفس الحياة، وكانت تبصر من خلالك نورها أيها الابن الذي ليتك تعرف البر أكثر، والشكر أكثر! - وحدها الأم لها ذلك التاج من الحب، ولها وحدها دمع العين، ولها حضورها على كل نساء الدنيا، وليت الابن يعرف ليزيد، وليته يزيد لتقول وحدها: كفى! - تسمع أنين طفلها فتفزّ وجلة، ولا تهدأ حمامة فؤادها إلا حين يسكت ذلك الأنين، وترى بريق العافية يلمع في عيني طفلها، وحين تئن هي من تعب ومن وجع، تكتم ذاك الأنين عن سمع طفلها، تبدي عليه الخوف، وتخاف عليه من الخوف عليها! - لا عطر مثل عطر الأم في البيت، تضوع به الجدران والنوافذ، ويبقى ممسكاً في ظل شجر المنزل، ويلقاك بالترحاب عند باب الدار، وإنْ غبنا أتت به الصلوات والدعوات التي لا تنقطع بأن نرجع لها سالمين، وسالمين فقط، وهذا يكفيها من فرح الدنيا! - وحدها الأم نحملها في قفص الصدر، إنْ شرّقنا أو غرّبنا، لأنها البركة التي تسبقنا، والخير الذي ينير دربنا، وهي وحدها التي لا تجعلنا نغيب دون أن تكون معنا، تسكن الرأس، ويرقص القلب إنْ سمع حسها، وتبقى النفس تتعالى لأنها هناك.. وهنا، لا تفارقنا، وتحرسنا! - يتعب قلبها، ولا تتعب من الحب، لأنها منذورة له، ومنها استمد دفئه، ومنها تعلم أن يبث النور، وأن يجعل هذا العالم غير موحش، وقابلاً للاخضرار، ويفرح بقدوم المطر، ويلون الحياة بالمعاني كلها! - لم الأم وحدها تعطي الظلام وهجاً، وتعطي الخوف أمناً، وتعطي الوجع صبراً، وتعطي الانكسار عضداً وسنداً، وتعطي الحياة زهواً وشرفاً! - حين تتعب الأم، لا نقول إلا كما كانت تقول: ليتني أنا.. ليته فيّ، ولا فيك، ونتمنى لو نكون صادقين كمثلها، نتمنى لو نستعير منها شيئاً من خوفها ووجلها، ولا نقدر عليه كله، نتمنى لو نعطيها شيئاً مما قدمت، فتخجل كلمات الشكر، وتتعطل معاني الود، ونبحث عن شيء يرضيها، فلا نجد، لأن الرضا حازته كله، ولا نعطيها إلا مما عندها! - لتلك المرأة التي يتعب قلبها، ولا تتعب من الحب، سلام هي مطلع الفجر، سلام هي.. لأنها آية التعب والصبر!