تبدو شابة ربما في أوائل الثلاثينات من عمرها، عيونها كحيلة لامعة كالزجاج، السيدة المصرية التي تجلس واضعة يدها على خدها بانتظار خروج جثامين أولادها وزوجها وأخوتها وأبيها. بماذا تفكر الآن؟ بماذا يمكن أن تفكر؟ هل أفطروا جيداً ذلك اليوم؟ هل وقفت في المطبخ مطولاً وهي تعد الغداء بانتظار عودتهم من صلاة الجمعة؟ هل تعنّت الولد الصغير ولم يكن يرغب في الذهاب للمسجد؟ هل أصرت عليه مهددة أن تحرمه من اللعب لو لم يذهب إلى الصلاة؟.. السيدة الشابة التي تجلس مع وحشة أفكارها بصمت وسكون، انسحب الحزن من أمامها محنياً رأسه، معتذراً لضعفه وقلة حيلته، وتركها لتحدّق في الفراغ بتلك العيون التي لم تدمع ولن تدمع بعد اليوم، فمخزون الدمع على مدى العمر أكثر ضآلة من استيعاب ذلك الحدث الزلزلة. لو قتلهم أشخاص يحملون رائحة الأجنبي من خلف الحدود لربما كان الحدث أقرب للفهم، والفهم يُعين على تحمّل وطأة المصائب. لكن الرجال والأطفال قتلهم أشباههم.. ربما كانوا أصحاباً يوماً، ربما أهل، ربما جلسوا يوماً على دكة مدرسة معاً، وربما ضحكوا على النكتة نفسها يوماً. وربما فقط تلاقت عيونهم في الطريق نفسه، فألقوا على بعض السلام. يقولون إنهم يقتلون تقرباً إلى الله. الله المحبة، يتقربون إليه بالكراهية. شياطينهم المعلمون بثّوا فيهم أنهم وحدهم أهل الحق وحماته، فربّوا في داخل أنفسهم الجاهلة النعرة. والنعرة حين تتحكم بنفس الإنسان الجاهل تحوله إلى مسخ. حين سار ملايين الألمان خلف هتلر وأوغلوا في العالم خراباً كانوا يسيرون بنعرة تفوّق العرق الآري، والنعرات واحدة، كلها تعمي البصر والبصيرة، وتحول القلب إلى كتلة حجر. قالوا لهم أنتم وحدكم أحباب الله اختاركم لتذودوا عن حماه، فصدقوهم وساروا خلفهم من دون تمييز؛ فمن يمكن أن يرى بعد تلك التغذية السامة. الله يحبك وحدك أقتل لأجله فيحبك أكثر، أنت من على حق وغيرك لا قيمة له ولا وزن. هل يزعجك القتل؟ أنت لا تقتل بشراً، إنهم كفرة ضالون، هم مجرد حشرات، أقتل دفاعاً عن ربك الأعلى! أنت تقتل لأجل القضية الكبرى، أقتل تكن بطلاً إن عشت، شهيداً إن مت. وهكذا أصبحوا مثل ذيل بقرة فرّت من قسورة يتطوّح في الهواء خلفها يضرب يمنة ويسرة ما يجده في طريقه، وهي تجري جري البهائم من دون هدى. ماذا يمكن أن يوقف سيل الدم العبثي هذا سوى إعلاء الوعي بقيمة الآخر أياً كان، وإدراك ضآلة الذات مهما علت، وأن توجّه المقدّرات لمحاربة النعرات مهما كانت. سيدتي المصرية الجالسة هناك، لا عزاء سوى أن الموتى هم القتلة، أما تلك الجثامين التي تنتظرينها فهم الأحياء.