لا يتكئ الشاعر إلا على ظل صوته، وليس في وظيفته من مهام سوى تبجيل الخيال، وابتداع أمكنة للدهشة المخنوقة، وفتح مجرى للزمن كي تتخلص الكائنات فيه من شكلها الوصفي، ويصير لها جوهرٌ حرّ. ومن الكلمات التي يظنها الناس مجرد «رغي» في الفراغ، يجمع الشاعرُ أحجار حصنه، ويبني بها معمار حياةٍ كاملة تستحق أن تعاش. والعالمُ الذي يتخلّقُ في القصيدة هو محض فجرٍ كاملٍ يمكنُ أن يظل مستمراً برغم تكاثر الظلام ونباح ضواريه. وما يبنيه اليأسُ من جدران في واقع البشر الساهين، وفي يومياتهم المروّضة بالتقليد والاجترار، يعود الشاعر ليهدمه أُساً بعد أس. مزعزعاً طمأنينة الغافل، خاضاً الأبواب على نائميها. وكل كلمة يزأر الشاعر بمعناها الجديد، تصير جمرةً وتشعلُ في ركود الدهر رغبة القفز والتجاوز وطي المدى في خطوة واحدة. وأن يقترب شخصٌ ما من القصيدة، ويدخلها من بابها المحفور على جدار الضوء. فانه ينسلُّ من ثقل الأبد، وتحمله الخفّة ليصير جناحاً سابحاً فوق تخوم الوجود. يقترب مرةً من النار وينفخ في بردها، ويدرك أنها ستظل هكذا تتلوى من حربٍ إلى حرب ولا فكاك للمغلولين من أسر دخانها. وأن تقترب امرأةٌ وتطرق باب القصيدة بأصابع من ندى، فإن جيوشاً من العشاق سيهبطون من غيمة، ويفسحون لها طريق الكلام العذب، ويرمونها بزهرٍ، ويغطونها بصهيل أشواقٍ جارفة. لا يقف الشاعر إلا على عتبة المدى. يحدّه من الشرق سفرٌ سحيق في الأزمان التي نقشَ أصحابها حكمة الدهور وحمّلوا لغزها في الكلمة. ويحده من الشمال جبل بعيدٌ كان في الأصل نجمة ثم ذوى وصار وسادة أحلامه. وفي جنوب الكون يقتلعُ الشاعر شوكةً من قدم الأمل، ويطلقُ مليون فراشة خضراء كي يلاحقها الأطفال إلى مستقر الغواية وبداياتها. وإذا استوى الغروبُ أغنية حمراء، وإذا تهادت سفن الخيال على بحرٍ من الألماس، يجلس الشاعرُ في حضن موجةٍ ويكتب بقلم البرق سيرة الدنيا كما يُراد لها أن تتجلى. بناسها المغسولين بمطر الخلاص، بالحب وقد صار سماء أولى، بالحقيقة التي ضاعت في شرودها، وفتّتتها السيوفُ، لكنها عادت في القصيدة نهراً، وجرى دمها عذباً في عروق الكلام. يقف الشاعر على مدخل الضوء، ويوزعُ بيده تذاكر الوجود. صامتٌ ولكن في قلبه نبض جرسٍ أزلي، ومن صوته يولد كل يوم هلال المعاني السامية.