مقتل ابن دير الزور الشاعر محمد بشير العاني على يد «داعش»، يعيد إلى التاريخ العربي، ذاكرته السوداوية ووعيه العبثي، وأحلام العصاب القهري، ما يحدث اليوم على أرض العرب من قتل وتجويع وتشريد لا يعبر إلا عن شيء واحد، ألا وهو أن العقل العربي أصبح مأزوماً بالفكر الضيق المزمل بالهوية أو الطائفية، وهذا جرس إنذار لما سيأتي من أخطار، أشد فتكاً وهتكاً، إذا لم يأخذ المثقف العربي دوره الريادي، في كشف المستور، وإيقاف العربات المتهورة من السير نحو المنحدر، والوقوف مع الإنسان في كل مكان، بعيداً عن الاصطفافات الغائبة عن الوعي، بعيداً عن الالتفافات المسيئة للوطن، بعيداً عن الغبار والسعار وغرائب الأطوار، فاليوم نحتاج كثيراً إلى المثقف الذي يجعل الإنسان في مقلة العين، والوطن في لب العقل، ولا مجال لأنصاف الحلول. لأن الموجة عالية والرياح عاتية والبركان هائل، أما الذين يذهبون بعيداً إلى حيث تسكن الأهواء والأرزاء وحالات الهراء والافتراء، فهؤلاء هم الأعداء، هؤلاء هم الذين يسبحون ضد تيار المنطق، ويخالفون الحقيقة، فتخيلوا أن من يقتل شاعراً فكأنه أباد شعباً، لأن هذا الصوت المطفأ هو صوت الإنسان، صوت الحقيقة، صوت الطائر المغرد فوق الأغصان، صوت الموجة الموشوشة عند السواحل. و«داعش» لم تقتل الشعراء، بل حفرت قبورهم، وهدمت تماثيلهم، و«داعش» نفسها، كما أنها تقتل الإنسان، فإنها أيضاً تريد أن تفتك بذاكرة زمن، وهذا ما فعله المغول، عندما دخلوا بغداد وأغرقوها بدماء البشر، حتى لبس الفرات اللون الأحمر. وما يجري في الأرض العربية، وبالذات في سوريا، إنه يعيد الذاكرة إلى زمن لم يزل، حبره أسود كسواد المراحل العدمية. وتاريخ «داعش» هو تاريخ التتار أو المغول، فالجيشان من الهمجية والعدوانية نفسها التي لا يحركها إلا ضمير الحقد والكراهية. وما يحدث في سوريا أو العراق أو ليبيا، هو ضربات بالأخف الثقيلة، ولا بد من اليقظة، ولا بد من أن يتنبه الذين يغضون الطرف عن هذا الطوفان الجارف، وأن يعوا بأن الحقد كائن أعمى، يضرب في كل الاتجاهات، ولا صديق له ولا حبيب، ولا بد أن يقف العالم أجمع، ضد هذا الوباء العصري، لمواجهته وإيقاف سيوله، ودحر عدوانيته، وقطع دابر فوضويته، لا بد أن يكون للضمير الإنساني صوت واحد، ألا وهو لا للخلاف حول «داعش»، لأنه تنظيم بنى عقيدته على الهدم والتدمير فقط، ولا رؤية له غير بناء كيان بغيض وناقم على كل ما هو جميل وحضاري.