ذات مساء حلق طائر أمامي، فقلت في خاطري أي صدفة هذه أن أرى ألواناً مزجها الشفق والبحر والأصيل، فكانت لوحة العشق والطبيعة. وتذكرت قصيدة حفظتها من أيام الدراسة عندما كان الأدب العربي محور التعليم وركيزته الأولى، وهي ما كتبه إيليا أبو ماضي بعنوان «دودة وبلبل» قائلاً: «نظرت دودة تدبّ على الأرض إلى بلبل يطير ويصدح، فمضت تشتكي إلى الورق الساقط في الحقل أنها لم تجنّح، فأتت نملة إليها وقالت اقنعي واسكتي فما لك أصلح ما تمنيت، إذ تمنّيت إلا أن تصيري طيراً يُصادُ ويُذبَحُ فالزمي الأرض فهي أحنى على الدود، وخليّ الكلام فالصمتِ أريحُ». من مخرجات تعليم تلك المرحلة، أن تعلمنا الكتابة بالرقعة والنسخ، وخطوطنا سهلةُ التشكيل والإعراب والفهم، كما أصبحنا نتذوق ذاتنا ونشعر بوقع الكلمة في الأذن، وعلى المشاعر والأحاسيس. فتذاكيت سائلة إحدى الشابات التي في سنتها الجامعية الأولى: هل تعرفين الشاعر إيليا أبو ماضي؟! فردت بصوتٍ جهوري ملأته البداهة: لا خالوه... ما أعرفه بس أعرف إيلي صعب! *** في ملتقى خصصته الجهات المعنية للمثقفين والمتثاقفين، جاء الفوج نفسه وتكررت الوجوه نفسها، وبعد التحية والملاطفات رددت بعض هذه الشخصيات المرموقة ذات الجمل والكلمات وكثرت كلمة «أنا» ثم «أنا غير» و«أنا مختلف» و«أنا يوم أكتب أكون في مزاج المُتَجَلي»، وكثرت الفلسفة، فنظرتُ إلى شاعرة جديرة بالتقدير والاحترام كانت بجانبي آنذاك، وقلتُ بصوتٍ تمنيت لو سمعه الجميع: «التواضع نعمة من الله... فقراء وغرباء هؤلاء، وبعيدة عنهم ديار الثقافة والإبداع!!». نَظَرتْ إليّ بعاطفةٍ وحنان ثم همست في أذني: «هكذا تتساوى لديهم الأمور». فقلت لها: «نعم... قد تخرج أجسادهم للفعاليات، وتبقى عقولهم حبيسة العنجهية والكبرياء... ولله ما في السموات والأرض». *** للعارفين أقول، هناك بشر تلمس كلماتهم أرواحنا وحديثهم معنا صورٌ من البلاغة والفصاحة والأدب. هذبوا أنفسكم في عام القراءة، وزيِنوا شبابيك فضولكم بورود المعرفة حتى لا يمر يوماً مثل «اليوم العالمي للشعر»، وأفئدتكم ساكنة وعقولكم شاردة في براري العزلة والجهل. كل عام ومن يهز شبَاك قلبي بخير.