وضعت طرف الثوب الطويل بين أسنان المحطات، ورحت أعدو في المسارات والبراري، في مساحات الضوء والعتمة، وفي حرائق الشمس، وفي الحنين والتوحد، وبحثت عنكِ.. في البدء كنتِ ولم يكن الكلام.. كانت الأغنية، وكنتِ أنتِ في نهنهة المطر البخيل، وشقوق القحط، وحنجرة الأطفال الذين يتضورون جوعاً، ويتفسخون في حرائق العري، وكنت أنت، أيتها النار الملعونة القدسية تحفّين بي، وتحتفين، وتعلنين عن صهيلي وحمحمتي. وكنتِ في احتفائك تمسحين الرماد والجمر وعطن التراب وحياد الألوان، فتنسجين الظلال والخطورة والاخضرار. وبين حياد الدفتر وسواد الحبر، وقلبي، كل شيء يصير دافئاً وهادئاً، وأصير أنا نزق الشاعرية ورعونة الاجتراح على حياد الورق وعتمة الحبر. كل شيء يصير حلواً وعذباً وحليباً، وأنا لذعة المرارة فأتحد بكِ، بالسخونة والوقار، بالحلاوة والعذوبة والحليب، والمرارة، وأنتِ.. فتكون القصيدة! اعترف بأنني منذ زمن فتشت عنك بين دفاتري والقصاصات الصغيرة المرصوصة كالمتاريس بين مساحات الجدران، وعلى الأرفف الخشبية الساكنة، وفتشت عنكِ في بؤبؤ عيني وبين ملابسي وجلدي وأظافري، فما وجدتكِ!. سألت البحر، فلم يجبني! سألت الرمل والريح والقيظ، فلم تجبني! حدقت في ملامح الأصدقاء والعصافير، فما وجدتكِ، ناشدت أطفال الجيران الذين يقصفون أعشاش العصافير بالحجارة والقهقهات البريئة، والفتيان الذين يدحرجون الكرات بين أزقة الحارات، فلم يجيبونني! نقبت عنكِ بين تضاريس البلاد وحواجز الحدود، فلم أجدكِ، بعثت بإشاراتي إلى العمال في الطرقات والموانئ وصهاريج المصانع وخطى الغرباء على الأرصفة، والعائدين إلى أوطانهم بعد اغتراب، والعائدين إلى اغترابهم، فلم يجبني أحد، ولم أجدك في أحد، أيتها النار، القصيدة، اللهب!! *** جلست هادئة وقلت: لكنني رغم النضوب والأسى، سأكتب الآن قصيدة جميلة بأي حال أو سبب.. قهقه الشعر ساخراً وقال: لكن أين اللهب؟ لا فكرة نزقة، لا خيال جامح، لا شوق يحتدم.... ولا غضب!! قلت له: بلا سبب، تأمرني الكتابة، تنهرني الكتابة، تسوقني إلى النعيم مرةً.. ومرة إلى اللهب.. بلا سبب!