هدَ الدهرُ أحصنتي، وما عادت العرباتُ مأوى انتقالي بين اللحظتين. واقفٌ مثل صنمٍ قديمٍ أمام سؤال الحقيقة، أراقبُ من يراقبني، وأفتّش في الدخان عن وردة ضاعت، وعن ذكريات قرأتُ عنها في الكتب، ولم أجد لُطفاً من صداها. وأنا سليلُ فرسانٍ يُطوى الزمان تحت أرجلهم، وتخضرّ لهم المسافة كلما عبروا أرضاً جديدة. ومن شيمتي أنني أقدّس العزّة، وقد أبيع دمي من أجل كرامةٍ حرة. هكذا قرأتُ ترانيم الفخر في طفولات الدفاتر، وجعلتها نطقاً في الغناء. ولكن بعد حينٍ، رأيتُ العصافير في ذعرٍ من عوائي، ورأيتُ القادمين الى الحب، صرعى تحت راياتٍ سوداء. وسمعتُ على المنابر والشاشات مواعظ في القتل. ومن شدّة الشبه بين لسانيهما، لم أميّز بين فم الدجال، ونوايا الناصحين. وربما أدرك الرجالُ قبلي، أن الشيطان لا يخشى أن يراه الناس قبيحاً وذميماً وعلى فمه وثيابه آثار دم. هكذا كُتب عليّ أن أشقى، وأن أعتاد مشاهد الطوفان والزلزال، وهجرة الطفل من حضن أمه، وسقوط العكّاز من يد الحكيم. ولذلك آمنتُ حتى أدمنت الأمل. ومن شقٍ في جدار الظلام، أيقظتُ شمعتي وكتبت بنورها خطوتي في سباق الحالمين. والقصيدة المرّة التي تجرعتها طفلاً، عُدتُ أرويها بين الحشودٍ على إيقاعٍ راقصٍ وأنا أصفّقُ للبداية، وتنحاز جوارحي للأبيض البرّاق، ويشدني من بعيد طرب الأمنيات المستحيلة. وهذا الرماد الذي نثروه على عيون قافيتي، لن يوقف اندفاعي نحو عين الحب. وهذه المحاذير التي فرشوها في الطريق يأساً ناصعاً، لن تعيق أجنحة القلب عن بلوغ مُناه. ويوما، حين تجدينني أعانق في السلام غصناً يابساً، وتحومُ رؤاي على فكرة الخلاص، خذي من زبدة الكلام صمتي، خذي الممحاة الى دفاتري وأكتبي اسمي من جديد. أنا الذي وقفتُ نداً للظلام وتفتتت تحت صوتي طُبوله. أرفعُ السيف كي أحمي أمان المطمئنين. وقد أطعن النار بيدٍ طويلة، قبل اقترابها لحدائق الورد. وستظل يدي في بناء، حتى لو كل من حولي يهدمون. هدّ الدهرُ أحصنتي، لكنني عدتُ أسقيها من نبع ضوءٍ لا يجفّ. رسمتُ على جبين الأيام باباً وخرجت أصدحُ بالسلام وبالمحبة. والوجوه التي أدمنت العتمة، تركتها تتلاشى في غيّها، وذهبت مشغوفاً أنثر بين الأطفال لحن الشمس، ورأيتُ على وجوههم ابتسامة النجمة، وبراءة القمر، وتوق الروح للروح في ظهيرةٍ عطرة.