تقترب مدينة التاريخ إلى ضفاف الحياة والحريّة. تقترب من خلايا الجسد أو من حنايا الروح. إنها، حقاً وصدقاً، مدينة ساحرة، بل مقطوعة جمالية في قاموس العرب على مر العصور؛ فلا يمكن لحروفها أن تتهجى، ولا لصوتها أن يغترب ما دامت الضاد في شموخ. إنها صنعاء التي زرتها قبل ما يقارب السنوات العشر، حين احتضنت أدباء العرب في ترحال اجتماعاتهم ما بين العواصم العربية والمدن الثقافية. لم تكن سوى مدينة جميلة تفتح قلبها في ترحاب تام ومعبر، نواته العروبة الأصيلة التي لا تقبل التأويل؛ فكانت لي رحلة لاستكشاف الماضي فوجدت ذلك الإشعاع التاريخي الذي يزخرف المباني المغلفة بآثار الزمن والقصص والشواهد والحكايات والأبواب الذي تبقى منها باب اليمن المتاخم للسوق، هناك حيث الخناجر والملابس العتيقة، ونكهة البهارات وصنوف الأطعمة، كلها تتعانق في ممراته التي تحتضن المباني القديمة والمساجد وزوايا المكتبات فيبدو السوق أمامك أقرب إلى يمن مصغرة. كان السوق، وقتها، يمتلئ بالناس؛ يمنيون وسياح أجانب، وأطفال السوق الذين يقدمون خدماتهم للزائر لإرشاده إلى معالم المدينة المختلفة، وما يلفت النظر إجادتهم للغات متعددة، وبسمة تعلو وجوههم، وروح الدعابة والذكاء التي يتحلون بهما، لكن أثر أعواد القات كان بادياً عليهم؛ فأجسادهم منتفخة ومتورمة. ولأن صنعاء مدينة عربية تتجلى بفكرها وريادتها وعمقها التاريخي، فلا بد من انتزاعها من ذاكرة الخراب القادم ومن ميلشيات الانهزام التي تحركها لغة الدم والبطش التي تريد أن تنحو بالمدينة الجميلة إلى نحو آخر، ومن هنا جاء القرار الحكيم بتحرير المدينة من العصابات والمليشيات المريضة والمهجنة بثقافات جديرة بالانهزام، وهذا ما سيحدث لها حين تتحرر مدينة صنعاء وسائر المدن اليمنية. لا تختلف صنعاء في المجمل عن بقية الدول العربية، من حيث العراقة التاريخية أو الانطواء على تاريخ حضاري تجسده الآثار والمعالم المعمارية الجمالية التي تترك أثراً هائلاً في روح من يزورها، وها هي صنعاء ترسم من جديد منظومتها التحررية وتكتب ملحمة أسطورية في محيطها العربي شأنها شأن سائر المدن العربية التي تزخرف الحياة من جديد.