ترفٌ أن ترفّ عينكِ، وأنا تحت ارتفاع رموشها أولدُ، ويكتسي جسدي بريشٍ مسافر، ويفيض في براحة قلبي الصفو. ونعيمٌ عظيمٌ لو البحر يجلسُ عند قدميها حيث ترسو مراكب الغرقى، ويزول ظل المسافة، وتصير أشرعة الريح مناديل أعراس، والموج يخلع معطف الغدر ويستلقي ناعماً في حرير يديها. والحب الذي كان طفلاً في برواز المستحيل، يخرجُ من ذكريات النادمين واليائسين، ويصير جسراً لجيوش عشاقٍ جُدد، وباباً لمن تبللت أرواحهم باللوعة، وخثّر الانتظار حبر الحنين في أشواقهم. من هذه المرأة الكونية، وكيف أضاء اقترابها عتمة التواريخ، وكيف خضّ عبورها سكون المجرة؟ هكذا نطق الفيلسوف وهو مغمض البصيرة، لكنه حين رأى ظلالها تدنوا، تيبّس في كلامه المبتور، وذوت وردة الشكّ على فمه، ولم ينبس حتى بحرف سؤال. وقد حدث هذا لأنها استدارت، فشعّ من وجهها ضوء المعجزات، وحلّقت في خواطر المحرومين طيور أملٍ شاسع، وسمع الباكون لأول مرة كلمة (الحرية) وهي بيضاء، بلا بقع دم على ثيابها أو حروفها. ولكن ما جرى حقاً، هو تمرد الكلمات على سجّانها في القواميس المغلقة، ونزوح المعاني من وحل التكرار. ومن أصابع الشعراء صارت تفيض اللغات بكلمات جديدة. وما كان بالأمس وصفاً للذّل، صار شكلاً للعدالة المفتوح بابها. وما ظنه المتأخرون البداية، صار صافرة إنذار بقرب انقلاب المصير، وتبدّلُ الدنيا من حال إلى حال. من هذه المرأة إذن، وكيف نخّت الأوصافُ تحت عبورها، ومن قطف الأقمار من قلبي وعلقها نجوماً في مدى شعرها؟ أجبني يا أيها الشعر، أنقذيني أيتها الفكرة الجارحة. حملتُ شمعتي الأخيرة، وخرجت بحثاً عن رسائلها في الليالي العاصفة، وكم لسعتني في الدروب عقارب الخوف، لكن دفئي كان يشتدُّ. وكم انغلقت على قدمي الفخاخُ، لكن الطريق كانت تقصرُ، وعلى جانبيها نما عشب أحلامٍ كثيرة. مشيتُ مشيتُ، ولم يعثّرني سوى الكلمات الغامضة رأيتها تطلُّ من ثقوب الحقيقة، بوجوه شياطين أحياناً، وأحياناً بأقنعة أبرياء. وأنا لا أفرّق في الظلام بين النقيضين، وما همّني إلا تدارك ما صار يتلاشى من توق روحي إلى الخلاص معها، وفي يدها، أو ربما لو تشكّني زراً في عباءة النور. وهذا أكثر من كفاية. من هذه المرأة؟ أخاف لو أشرتُ نحوها تدور الأرض عكسياً، ويخرج النهار من معطف الليل، ويبدأ يتبعُ نهرها جريان الزمن.