الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحصار.. غير قابل للسرد

الحصار.. غير قابل للسرد
27 يناير 2016 21:27
نبيل سليمان يبرز الحصار كواحد مما يتعنْوَن به كل صراع مسلح (حرب- ثورة- انتفاضة- احتلال- غزو...). ولذلك يكثر ويتنوع – وبالطبع يتفاوت- التعبيرُ السردي والشعري عن الحصار، أو حضور الحصار في السرد والشعر. من السرد، تلك هي رواية فوزية رشيد (الحصار)، ورواية الألباني إسماعيل كاداريه (الحصار). أما إذا انتقلنا من العنوان إلى النص فسنجد أن فوزية رشيد تروي ما كان من الحصار أثناء الاحتلال البريطاني للبحرين، قبل اكتشاف النفط. وإلى الماضي الأبعد يعود إسماعيل كاداريه، فيروي حصار الجيش العثماني لإحدى القلاع الألبانية، وعجزه عن اقتحامها في القرن الخامس عشر، والقلعة من أخيولات الكاتب التي توسلت التاريخ، وهو (المهووس) بتاريخ بلاده. وبعنوان يغيب عنه الحصار، تذهب الإشارة إلى رواية (حبيبتي كريت) للكاتب التركي سابا آلتن صاي الذي يروي أيضاً من التاريخ العثماني/‏ التركي ذيول الهزيمة في الحرب العالمية الأولى وتهجير المسلمين من جزيرة كريت بالمبادلة مع المسيحيين اليونانيين في تركيا سنة 1923، وحيث عانى المسلمون الكريتيون من الحصار، فعاشوا حيناً مختبئين، يترددون حتى في تسجيل موتاهم ومواليدهم الجدد في سجلات النفوس... من الأمس القريب فالأقرب إلى الحاضر، يحضر الحصار في رواية سحر خليفة (باب الساحة) التي تصور الانتفاضة الفلسطينية في نابلس، حيث يضطر الجنود الإسرائيليون في نهاية الرواية إلى إغلاق بوابة الحارة بالإسمنت، ليطبق الحصار على المنتفضين الذين تبدع النساء منهم في فرط الإسمنت الطري بالماء تحت جنح الليل، ليطلع الصباح على انهيار الجدار الإسرائيلي، فيأتي الرد مسعوراً، ويسدّ الجنود البوابة بالجلاميد، ويفرضون حظر التجول. وفي الحصار، يصطاد الجنود الإسرائيليون الشباب واحداً واحداً، لكن الشباب يرفعون العلم الفلسطيني على البوابة، بينما تتوالى في الحارة المحاصرة التغيرات التي تغدو معها النفوس أكبر نقاءً والعزائم أكبر مضياً. لقد حظيت السردية الفلسطينية للحصار بنصيب وافر من العرض والنقد، وكذلك هي السردية اللبنانية المتعلقة بالحرب 1975- 1990، ولذلك سيكون الوكد هنا في مظانّ أخرى سواء عن هذه الحرب، أم عما زلزل سوريا عام 1982، وبخاصة: عما زلزلها منذ خمس سنوات، عرفت فيها من الحصار ألواناً وألواناً. مديح الكراهية ترسم روايةُ خالد خليفة (مديح الكراهية) الحصار إذْ يشتبك بالصراع المسلح. وتعود هذه الرواية إلى ما عاشته مدينة حلب أثناء الصراع المسلح بين الإخوان المسلمين والسلطة. ففي أعياد ميلاد عام 1981، قرع مسيحيو حلب أجراس كنائسهم باستحياء، وصلّوا بصمت، إذ كانت حلب قد غدت مدينة المآتم، وفُرض منع التجول، وحوصرت المدينة، فمنع الدخول إليها والخروج منها خمسة عشر يوماً كانت كافية لتفتيش بيوتها، ونقرأ: «استباح أسرارها أربعون ألف جندي من سرايا الموت والقوات الخاصة، بالإضافة إلى الفرقة العسكرية الكاملة التي تحاصرها من كل الأطراف»، وبالنسبة للراوية فقد كان الحصار، كما تروي، فرصتها لتأمّل ما حولها، وقد أصبحت كسولة تغرق في النوم حتى الظهيرة، على الرغم من أن الجنود فتشوا المنزل ثلاث مرات. وتصف الراوية التفتيش حتى درجة التعود على الجنود، الأسرة، ويجسون بأياديهم صوف الفرش، ويفتحون الخزائن، ويقلبون الثياب والصور، وينزلون إلى قبو المؤونة، ثم يخرجون ليعود أهل البيت إلى عزلتهم: نساء حزينات ووحيدات، فقدن أمانهن، بينما انتظار كوارث أكبر يثقل الأرواح، ويشدهن إلى تلمس أجسادهن المعطوبة حتى أصبحت قديداً يابساً. في اليوم العاشر للحصار خرجت الراوية من البيت، وإذا بحلب كأنها لم تعرفها من قبل: أصوات الرصاص والقذائف، آثار الدمار في بيوت باب النصر وباب الحديد والجلوم. وقد مضت الراوية إلى الحاجة سعاد ولية أمرها في التنظيم، فطلبت إليها الامتناع عن زيارتها، لأن المعركة النهائية التي كان التنظيم ينتظرها مع الحصار، شرّدت القيادة، وعادت الخلافات فيها حادّة حول النفير العام. وكان الدم يغطي أحلام الراوية في الأيام الأخيرة، بينما تغلغل الحصار في الجلود وصارت نساء المنزل يجلسن قرب النافورة بصمت، يحاولن اختلاق ذكريات باهتة يبددها الخوف الذي يحيلهن إلى كائنات تشبه السحليات. ومن بين نساء هذه الأسرة كانت المتمردة مروة قد علقت الضابط نذير المنصوري وعلقها، أثناء تفتيش المنزل. بانتهاء الحصار، تروي الراوية، كان كل شيء قد انهار، وكانت المصيبة أكبر من أن تحتملها نساء عاجزات، إذ صار رجالهن مشاريع موتى، لا يهم كثيراً إن كانوا شهداء أم جيفاً. وقد فتحت المدينة أبوابها ثكلى، ثلاثة أيام، وانسحبت الدبابات، وجلّل الحزن والخوف الناس الذين اعتادوا خفض رؤوسهم أذلاء كدجاج لا يهمه إلا العودة إلى القن آخر الليل سالماً. الذين مسهم السحر تحدد هذه الرواية لروزا ياسين حسن بدء الحصار الأول لمدينة المعضمية المجاورة لدمشق بيوم الإثنين 9/‏5/‏2011. وتصف البداية بقطع جميع خطوط الهاتف والإنترنت، وتسوير المدينة الصغيرة بمئات السيارات والدبابات وسيارات الزيل (الشاحنات العسكرية) وعناصر الجيش والأمن. وتضيف الرواية إلى (مبالغاتها) أن الفرقة العسكرية الرابعة بعثت برجالها إلى الحصار، ومع ذلك احتاجت الدولة إلى أعداد أخرى من الشباب كان منهم مئات من شباب المساكن العسكرية، وهي حيّ طرفي من المعضمية، لاقتحام البيوت والبحث عن الأسلحة. وتصف الرواية مجريات الحصار بتوزع المحاصِرين على مجموعات، ونقرأ: «كانوا يدقون أبواب البيوت بقوة، وإن لم يفتح أصحابها يقتحمونها. تختبئ النسوة مغطيات رؤوسهن، فيما يبحث العناصر في كل مكان، في الخزائن وتحت الأسرة ووراء الأبواب وبين المؤن، في أي مكان يخطر ببال شخص أن يخبئ سلاحاً فيه. من لم يفتح الباب كانوا يكسرونه، يخلعونه ويدخلون». وتفصل الرواية في سرقة أحد شخصياتها (غسان ونوس) للذهب من صندوق الصيغة المركون على طاولة في غرفة النوم في أحد البيوت. سوى مسدس وجد مدسوساً في خزانة ثياب أحد البيوت، تنفي الرواية العثور على الأسلحة المطلوبة. وتبرع الرواية في تصوير تناقضات شخصية (فاطر) الذي يشارك في الاقتحامات مغالباً شكوكه وتردده، فلا يجرؤ مثلاً على أن يخبر أخته الهلعة بأنه لم ير قطعة سلاح في بيت. وبينما راح يكبر شعوره بالذنب، راح يعد نفسه بالعثور على سلاح، لتستوي الندية والتكافؤ. وإذا كان ظل مصراً على المشاركة في الاقتحامات أثناء الحصار، فلأنه يخشى إن لم يشارك أن يتهمه رفاقه بالجبن أو التخاذل، ولذلك كانت نشرات الأخبار في القنوات التلفزيونية الرسمية تثلج صدره إذْ تعرض أكوام الأسلحة التي عثرت عليها الأجهزة الأمنية في مناطق المظاهرات التي لم تتوقف أثناء حصار المعضمية، حتى بدا الأمر كأنه نوع من التحدي السافر لقوات النظام. في اليوم الثاني من أيام الحصار، اقتحمت القوات بيتاً لجأ إليه متظاهرون. وفي مشهدية بديعة، وبكثافة، تصور الرواية كيف لم يفتح أحد باب البيت، وكيف فتحت قفله رصاصة، وكيف لم يعثر المقتحمون على أحد إلا صاحب البيت الذي ظل مصراً على الصمت يوماً بطوله: قلعوا أظافره بكماشات، كهربوا جسده، ولم يتكلم، وأخيراً مات فجأة عندما لبطه أحدهم بحذائه على رأسه، ولم يعرفوا أين اختبأ الهاربون. وهذه مبالغة أخرى من مبالغات الرواية، مهما يكن البيت كبيراً وذا مخابئ، وبخاصة أن المختبئين جماعة. في نهاية الحصار قدمت سيارة بيك آب هرمة مزدحمة بمجموعة من عمال البناء الذين كانوا غائبين عن المعضمية في إحدى الورش طوال أسابيع مضت. وعلى مدخل المدينة أوقف السيارة حاجزُ اللجان الشعبية قريباً من حي المساكن العسكرية، وكان فاطر مع الحاجز، لكن السيارة لم تقف، فالعمال أبناء المدينة ويعرفون سكان المساكن، ولم يكونوا قد علموا بما طرأ على مدينتهم. وصاح شاب من الحاجز (معهم سلاح...)، وسيتساءل فاطر بعدما أطلقوا الرصاص على العمال وقتلوا اثنين وجرحوا ثالثاً: هل كانت أدوات البناء تبدو من بعيد كأسلحة مشرعة؟ وفجّر ذلك المدينة بالمظاهرات الغاضبة التي علا فيها الصوت الطائفي: علويو حي المساكن قتلوا أبناءنا. في خريف 2012 تنتقل (الكاميرا الروائية) إلى حي (الحجر الأسود) في سوار دمشق أيضاً، وكان الحراك السلمي السوري قد تحول منذ قرابة السنة إلى العسكرة. وبينما كانت القوات الحكومية تحاصر (الحجر الأسود) كانت كتائب ثوار الحي قد استولت على معمل الكابلات النحاسية على تخوم الحي، ومن ثمن بيع ما غنموا ليعوضوا ما ينقصهم من المال. ولما انقطع لفترة أخرى التمويل عنهم، فرضوا أتاوة على كل بيت في الحي. عبر ذلك كان (أبو عزيز) الكردي يتنقل مع شباب في الحي، يختبئون في قبو ما عندما يبدأ القصف، وفي أوقات الهدوء يمضي إلى معمل البرادات ليمارس هوايته في تصنيع القذائف البسيطة. وكان اقتراب الشتاء يدفع بالناس إلى تعبئة خزانات الوقود بالمازوت. وبينما أخذ الحصار يضيّق الخناق على المحاصرين، انسحب مسلحون، وأخذت الأسلحة التي يُزوَّد به المسلحون تزداد سوءاً، وما يُدفع للحصول عليها يذهب هباءً تقريباً. تكاد تضيق رواية (الذين مسهم السحر) بمئات القصص والحكايات والأخبار والوقائع، مما عاشته سوريا بطولها وعرضها سنتي 2011 و2012، ولا يخفى الرهق الذي يصيب الرواية جراء هذا الطموح. ومن ذلك السرد الذي لا يفتأ يتوالد ويفيض ويتداخل، وأحياناً يلهث حتى تكاد أنفاسه تتقطع، قصة مجزرة قرية (التريمسة) التي تتصل بالحصار أيضاً. فقد قادت (الصدفة الغريبة) – وما أكثر الصدف الغريبة وغير الغريبة في الرواية – إحدى شخصياتها الكثيرة (عصام طعمة) إلى أن يوجد قريباً من منطقة التريمسة، مرافقاً ثلة من الصحفيين الأجانب تسللوا عير الحدود اللبنانية إلى مدينة (القصير) ثم إلى حمص، فإلى ريف حماة، حيث يزورون البلدات الثائرة برفقة عصام الذي علمه صديقه الشهيد (فراس الصفدي) أن الأهم هو التصوير. وفي رواية عصام أن المنطقة كلها كانت محاصرة، إذ منعت القوات الحكومية سيارات الإسعاف من الدخول إلى القرية، ومن ظل حياً لم يستطع إسعاف من لم يمت بعد. عائد إلى حلب في رواية عبدالله مكسور (عائد إلى حلب) يعود الراوي إلى بلدته (المطامنة) في ريف حماة، ولكن بعد أن تتعرج به الدروب ليصور – وهو الصحفي الحامل للكاميرات - مشاهد الحرب المجنونة في حلب وفي حماة، وحيث يتخذ الحصار شكلاً آخر، فالأحياء المحاصرة هجرها أهلوها غالباً أو قليلاً، وهي تعج بالمسلحين، من جبهة النصرة إلى الجيش الحر و... ومقابلهم القوات الحكومية، والأمر بالتالي يشتبه بأنه ليس حصاراً، بل هي الجبهة، وهي الحرب بين الطرفين. إلى حي سيف الدولة من مدينة حلب يصل الراوي الذي لا يفتأ يرمي بالشيات السيرية، كما كان في رواية عبد الله مكسور السابقة (أيام في بابا عمرو)، حيث يعود الراوي الصحفي إلى بلدته (طيبة الإمام) من ريف حماة، وعبر ذلك يوثق للسنة الأولى من الحرب السورية، وحيث يتلامح الحصار أيضاً كجبهة حرب. التقى الراوي في حي سيف الدولة بأبي نزار وحفيده الطفل، وحيث فرّ الجميع، وليس ثمة إلا الرصاص والقنص. وفي البيت المحاصر يجهز أبو نزار لضيفه آخر وجبة من السكر والشاي، بينما الكهرباء مقطوعة منذ أيام. وقد استشهد صهر أبي نزار في حمص، وعنه يحدّث ضيفه: «كان ملازم عم يخدم جيش نظامي، احتفظوا فيه مع انطلاق الثورة وما سرحوه». ويبدو أن ذلك جعل أبا نزار يحضر قلماً وورقة، ويكتب: 525600 دقيقة 8760 ساعة 365 يوماً 52 أسبوعاً 12 شهراً 1 سنة ربط كل هذه الأرقام بقوس ورسم قلباً ووضع بداخله: «حصار حمص». وتتكرر حالة حي سيف الدولة في حي اليرموك، حيث يصادف الراوي صحفياً فرنسياً هو نيكولاس، في المركز الصحي، وسرعان ما يبدأ القصف «إنها القيامة..» فتختفي ستة أبنية، ويضيق المشفى الميداني بالمصابين والقتلى، كما يعجز المشفى لأن جماعة من المقاتلين سرقت أنابيب الأوكسجين وعلب الأدوية، كما سيتكشف. ومن الليرمون سيتابع الراوي إلى حي صلاح الدين، ثم إلى قلعة حلب، ومعه نيكولاس، وهكذا تنجز الرواية تغطية أحياء عديدة من حلب، هي محاصرة وهي جبهات حرب. أما في (اللطامنة) فالحرب الطاحنة على امتداد النظر، تنتظر الراوي والفرنسي ونقرأ: «ثمة موت جديد يحاصرها ويحاصر من فيها بعد ست ساعات أو أقل من نوم عواصف النيران وتصالحها مع طبيعة الأرض. ثمة موت قادم لحصد المزيد». ويصف الراوي الصراع بين الدبابات المهاجمة والمسلحين المحاصرين في (اللطامنة)، والذي ينتهي بهزيمة المسلحين واستباحة المدينة ومصرع نيكولاس. بيروت 1982 في رواية (مديح الكراهية) شخصية ثانوية هي العقيد المتقاعد سليم الذي كان ضابطاً لمع نجمه في حرب 1973 إذ أعطب رتل دبابات إسرائيلية في معركة شهيرة قرب سعسع. وقد خاف زملاؤه من نجوميته فدسّوا له أثناء حصار تل الزعتر في بيروت (12/‏8/‏1976) أنه كان يقوم بتهريب الفلسطينيين من بوابة المخيم الجنوبية، ومنع ذبحهم، وجرَّت الدسائس الوبال على سليم. لقد كثرت وتألقت سرديات وشعريات حصار تل الزعتر حيث تردد أن الناس طلبوا من الشيوخ فتوى تحلل لهم أكل لحوم أبنائهم الشهداء، وربما كان التاج لذلك هو قصيدة محمود درويش التي اشتهر منها قوله: «حاصرْ حصارك... لا مفرّ... واضرب عدوك بي فأنت الآن حُرٌّ/‏ حُرٌّ/‏ وحرُّ». من مدونة تل الزعتر اخترت هذا العمل الذي صنّفه صاحبه بأنه (رواية شبه حقيقية)، وعنوان الرواية هو (بيروت 1982) لغسان شبارو. وقد أهدى الكاتب روايته لكل من عانى حصار بيروت في صيف 1982. وإذا كانت الرواية قد عنيت بالاحتلال الإسرائيلي لبيروت، وبالمقاومة الفلسطينية واللبنانية، وبمن استقبلوا الاحتلال بالأرز والعطور، وبمجزرة صبرا وشاتيلا وانتحار الشاعر خليل حاوي و... فقد أفردت الرواية للحصار مقاماً مؤثثاً بتفاصيل الحياة اليومية والعلاقات الإنسانية. ومن ذلك (الكهرباء) التي يبدو كأنما كتبت عنها في سورية منذ جُن جنون الحرب فيها. فالحديث بين الأب القادم من بحمدون والابن المقيم في بيروت تتصدره الكهرباء: ليس من قاعدة للتقنين، قد تنقطع طوال الليل، وقد تنقطع أربع ساعات، أما في المناطق الجبلية، فالأب يشكو من العيش على المولدات، ومن أن قسماً كبيراً من بحمدون لا تصله الكهرباء البتة. ومن تفاصيل الحصار أيضاً: النفايات التي تشغل شخصيات أخرى في الرواية، لكأنما كتبت عن بيروت منذ بدأت حملة (طلعت ريحتكم) وأزمة ترحيل النفايات، فهذا (رويتر) يدعو إلى حل للقمامة التي ارتفعت فوق براميلها جبلاً صغيراً، تفوح منه روائح مقززة، وباتت مسكناً مثالياً للجرذان والذباب والبعوض. والحل عند رويتر هو الحرق أو النقل إلى مكان آخر. والنقل يحتاج إلى شاحنة، والشاحنة تحتاج إلى البنزين الشحيح في الحصار، فلم يبق إلا أن يقترح أبو عبدالله إنشاء صندوق مالي للحي، وشراء عربة يد لنقل القمامة إلى موقع آخر بعد الانتهاء من الحرق، والصندوق سيشتري مولدة للكهرباء من أجل تشغيل الموتورات التي ستضخ المياه من آبار الحي. والماء هو التفصيل الأهم ككل تفصيل من تفاصيل الحصار، فالجنوبيات يحملن على رؤوسهن أوعية الماء من مداخل الأبنية مسافات أو إلى طوابق، والبيروتيات يحسدنهن على هذه المهارة، لكن ذلك يكون حين لا تنقطع المياه، أما في انقطاعها الكامل فقد اهتدى البيروتيون إلى مصادر لا ينضب ماؤها، كمباني السفارات السعودية والصينية والألمانية، وملعب الجامعة الأميركية. كما ابتدع الصِّبْية عربات خشبية ذات عجلات تُدفع باليد لنقل المياه لقاء أجر. ولأن المصاعد متوقفة بانقطاع الكهرباء، ابتدعت آلية البكرة التي تثبت على الشرفة وعليها الحبل... وبالطبع ابتدعت البيروتيات طريقة توفيرية لغسل الأطباق وتنظيف الحمامات والاستحمام بمنشفتين: واحدة مبللة بالماء والصابون، والأخرى بالماء فقط! لقد حوّل الحصار نسيج السكان إلى مزيج من الفقراء المعدمين الذين لا يملكون ما يمكنهم من الهرب، ومن الأثرياء الخائفين على مصالحهم من الاحتلال أو الاحتراق، لكن الأكثرية رفضت التهجير. وفي الرواية أن أولاء شعروا للمرة الأولى بجذورهم في المدينة والوطن، ومن هنا نشأت العصبية البيروتية. من شخصيات هذه الرواية: الأميركية جولي بارسونز المتزوجة من البروفيسور شومان، والتي ترسل إلى الرئيس الأميركي ريغان مستنكرة القصف الأميركي لبيروت، ومعلنة أنها تصوم «نيابة عن جميع الأميركيين الشرفاء تضامناً مع الشعب اللبناني في بيروت الغربية الصامد تحت الحصار والنيران الأميركية من دون طعام ومؤن وكهرباء وهاتف...». ولا يفوت الرواية ما تعانيه المشافي، فمشفى الجامعة الأميركية سيضطر، إن تواصل الحصار، إلى إعادة المرضى إلى ذويهم وإغلاق المستشفى كله، بعدما أغلقت أقسام التوليد والعيادات الخاصة ووحدة جراحة القلب. وما كان للمستشفى أن يستمر في العمل لولا أن المتطوعين استطاعوا جمع المازوت من خزانات منازلهم ومنازل جيرانهم وجيران المستشفى، لتعمل المولدات، والأمر كله إذن يبدو مخططاً لتجويع وتعطيش بيروت، وهنا يأتي دور الخبز الذي يصادره المسلحون من الأفران، ويبيعونه للباعة المتجولين من على ظهور سياراتهم، وبأسعار مرتفعة. وهكذا: الطحين مفقود، والسلاح يفرض منطق القوة حتى لم يعد راشد يستطيع تمييز الأسوأ: المسلحون أم الإسرائيليون، وحين حل عيد الفطر، جاء كئيباً، فالألعاب النارية الاحتفالية تحولت إلى تفجيرات قاتلة، وموائد العيد العامرة صارت كموائد أيام الصيام الفقيرة بفعل الحصار التمويني. أما ثياب العيد، فموضة العام هي الكاكي والمرقّط، بينما ألعاب العيد المفضلة للأطفال أضحت شظايا القذائف والرصاص الفارغ: تراها بيروت الحصار أم سورية كلها منذ جُنّ جنون الحرب؟ *** فيما تقدم، وفيما هو غالب من سرديات الحصار، يتعلق الأمر بالجماعة: الحي أو العمارة أو القرية أو المدينة. أما ما يتعلق من الحصار بالفرد، وفي حالة الصراع المسلح أيضاً، فهو نادر. وتحضر من ذلك رواية غادة السمان (كوابيس بيروت) حيث تعيش الساردة /‏ الكاتبة الحصار في بيتها الواقع فيما تسميه مركز الزلزال، أي في منتصف الطريق بين المقاتلين. وكذلك هي رواية ياسين الحصار في ممر بيته بعد أن تلجأ إليه الشابة المسيحية... وعلى أية حال يظل (الحصار الفردي) إن صح التعبير وثيق الصلة بالحصار الجماعي، ويظل التعبير السردي – والشعري أيضاً – عن أي حصار أقل فداحة مهما يتحقق له من التجربة ومهما يتحقق له من الإبداع. الحصار يبرز الحصار كواحد مما يتعنْوَن به كل صراع مسلح (حرب- ثورة- انتفاضة- احتلال- غزو...). ولذلك يكثر ويتنوع – وبالطبع يتفاوت- التعبيرُ السردي والشعري عن الحصار، ولعل قصيدة محمود درويش «الحصار» هي الأبرز على هذا الصعيد، ومنها: سيمتد هذا الحصار إلى أن نقلم أشجارنا بأيدي الأطباء والكهنة سيمتد هذا الحصار، حصاري المجازي، حتى أعلم نفسي زهد المتأمل: ما قبل نفسي - بكت سوسنة وما بعد نفسي - بكت سوسنة والمكان يحملق في عبث الأزمنة على الروح أن تترجل وتمشي على قدميها الحريريتين إلى جانبي، ويداً بيد، هكذا صاحبين قديمين يتقاسمان الرغيف القديم وكأس النبيذ القديم لنقطع هذا الطريق معاً ثم تذهب أيامنا في اتجاهين مختلفين: أنا ما وراء الطبيعة. أما هي فتختار أن تجلس القرفصاء على صخرة عالية إلى شاعر: كلما غاب عنك الغياب تورطت في عزلة الآلهة فكن «ذات» موضوعك التائهة و «موضوع» ذاتك، كن حاضراً في الغياب إلى الشعر: حاصر حصارك إلى النثر: جرّ البراهين من معجم الفقهاء إلى واقع دمرته البراهين. واشرح غبارك. إلى الشعر والنثر: طيرا معاً كجناحي سنونوة تحملان الربيع المبارك كتبت عن الحب في عشرين سطراً فخيل لي أن هذا الحصار تراجع عشرين متراً!... محمود درويش حصار لشبونة أبوظبي (الاتحاد) تعتبر رواية «حصار لشبونة» للروائي خوسيه ساراماغو التي نشرها العام 1989م واحدة من أهم الروايات التي تناولت ثيمة الحصار، ومن أهم روايات ساراماغو أيضاً، وفيها يستعيد الكاتب بتهكم دقيق جانباً من التاريخ البرتغالي. يدور موضوع الرواية الرئيس حول حدث تاريخي معروف، ألا وهو الحصار الذي فرضه البرتغاليون في العام 1147م على لشبونة المسلمة وانتهى بسقوطها في أيديهم وطرد المسلمين منها. وبطل الرواية يُدعى «رايموندو سيلبا»، وهو رجل في بداية العقد السادس من العمر، يعيش بمفرده في أحد الأحياء القديمة في لشبونة الحالية، ويعمل مصححاً لدى إحدى دور النشر، حيث يقوم بمراجعة الكتب المختلفة التي تصدرها هذه الدار. وفي أثناء مراجعة لكتاب في التاريخ بعنوان «قصة حصار لشبونة»، قام - نتيجة لعدم اقتناعه ببعض الوقائع التاريخية التي يراها منافية للعقل والمنطق - بتغيير كلمة في إحدى جمل النص الأصلي (وضْع «لا» مكان «نعم») حوّلت معنى الجملة من الإثبات إلى النفي، بحيث أصبحت هكذا: «لم يساعد الصليبيون البرتغاليين في حصار لشبونة والاستيلاء عليها». ولما اكتشفت دار النشر التحريف تداركته، ثم استحدثت وظيفة «المنسق العام للمصححين» لتفادي حدوث مثل هذه الأخطاء في المستقبل، وأسندت الوظيفة إلى الدكتورة ماريا سارة. للمفارقة، تقترح سارة عليه كتابة تاريخ أو قصة جديدة للحصار من منطلق كلمة «لا» التي وضعها متعمداً وجعل الصليبيين يغادرون بسببها، ويتخلون عن مساعدة البرتغاليين. وهكذا وجد ساراماغو «حجة روائية» لعرض أفكاره وتأملاته الفلسفية حول الحياة والموت والفن والأدب والمعتقدات والسلوكيات البشرية. بتصرف من مقدمة الرواية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©