لابد لي، منذ السطر الأول لهذا المقال، أن أعترف بأنه بعد أكثر من 18 عاماً من كتابة العمود الصحفي يبدو لي اليوم أن تجربة كتابة عمود أخير في جريدة شكلت واحدة من أهم مراحل حياتك المهنية في بلاط صاحبة الجلالة، الصحافة، هو أحد أصعب وأقسى الأعمدة التي يمكن أن يكتبها أي كاتب في العالم ! إن الرسالة المتضمنة في هذا العمود بقدر ما يمكن التعبير عنها اختصاراً بوصف «مقال وداعي قصير»، إلا أن الأمر لا يبدو لي بهذه السهولة أبداً، حيث ننظر- نحن الكتاب- إلى المساحة الصغيرة، التي أتيح لنا أن نسكنها في أية جريدة، على أنها بيت موازٍ لبيت العائلة، ووطن آخر ونافذة مرتفعة جداً نمتلكها دون منازع أو منافس وبمنتهى الفرح والحرية، لنطل منها على كل العالم في أية لحظة وفي أي وقت، وحتى لو كان هذا البيت ليس فيه سوى هذه النافذة، فهذا بالضبط ما نريده، وما نظل نبحث عنه دائماً.. هذه النافذة المفتوحة صيفاً وشتاء، وفي كل الفصول، يمكن أن تهاجر، كما يهاجر عصفور، أو تغادر شجرة ! حين جئت إلى «بيتي»، جريدة الاتحاد، كنت على ثقة من أن أهل البيت سيمنحونني ثقتهم، وقبل ذلك سيغمرونني بكامل اللطف والكرم، وهذا ما كان وأكثر، وهذا ما لا يمكن أن أنساه، أما حين فتحت النافذة وجدت في فضاء الخارج قراء كثر راسلوني، وحيوني، وشدوا على يدي، وفرحوا بما أكتبه، وكثيرون كانوا فرحين، وقالوا إنهم يستمتعون بما أكتب، اعتبرت ذلك لطفاً غامراً وصدقته، لأن القراء لا يكذبون، والكذبة لا يكلفون أنفسهم مشقة إرسال الرسائل للكتاب، شكراً لكل هؤلاء، وحتى لأولئك الذين هاجموا بعض المقالات، أو لم يحبوها، ولم يتفقوا معها، وكتبوا ذلك كل بطريقته، أشكرهم لأنهم ثبتوا في داخلي عقيدة أن اختلاف الآراء والتوجهات والأفكار واحدة من سنن الكون، وأنه أمر طبيعي جداً، ولو اتفق مع الجميع لكان في الأمر ما يثير الشك في داخلي، إن الاختلاف دليل على جرأة الكاتب على النظر في الاتجاه المغاير، وعلى جرأة جمهوره في أن لا يتفق معه، تلك هي الحرية في فضائها الإنساني المهذب ! حينما جئت إلى الاتحاد كانت الاتحاد، وبقيت، جريدة الوطن وحلم أي كاتب أن يضع اسمه بين كتيبة كتابها الرائعين، ولن أغلق النافذة، ولكنني سأذهب إلى نافذة أخرى لا تبتعد عن الاتحاد، ولا تجافيها، بل هي امتداد لسورها، وقلبها، وكرمها. أتمنى للاتحاد، هذه الجريدة التي احتملت قلمي ونزق الكتابة فيه، واستضافتني هذه السنوات الخضراء من عمر كتابتي، أن تبقى أبداً جريدتنا وحضننا وحصننا ومصدرنا الأول، وأن تتألق دائماً بخبرة من فيها وحب من يتابعها، وللإخوة العاملين فيها كل التوفيق، وللقراء كل الشكر والتقدير والمحبة.