لو يتذكر الإنسان لحظات معينة في أماكن معينة قبض فيها على السعادة التي لا يخطئها القلب، ولا تجعله يستقر في مكانه، دافعاً ما يجري في العروق ليترجم فرحاً وبهجة في الوجه، هي لحظات غالية وآسرة، تتمناها لو تتكرر بين حين وحين، ولا تضيع في عجالة الحياة أو تعب الأيام، وغفلة النفس، هي ساعات تختلط فيه صوفية الأشياء فترفعك، فلا تدري أي سماء تظلك، تزاغيك الدنيا، وتكاد تفتح لك جنتها، فلا تدري أي بقعة تقلك: - مدريد: ذات ليلة صيف بهي كالعافية وأكثر، في مطعم «La Terraza y El Jard?n» تحت تلك الأشجار المتعالية بحنو، والمتدلية بشوق، المحاذية لفندق «ريتز» العتيق، ومتحف «برادو»، كانت ليلتها زيارة متجددة بعد طول انقطاع عن إسبانيا ومدنها التي أحب، ساعتها حضرت كل الأشياء التي أعشقها، وحضر الألق، وغابت كل المنغصات، وغاب القلق، كان هواء الليل يتعانق من نغمات من جيتار إسباني بعيد، وهمسات لبحة ذكورية لمغني غجري يساير راقصة فلامنكو، وثمة تداعيات يجلبها الخاطر، وتوقظ فيك الهوى والنشوة، وتستدعي هند وليلى، فتشتعل حريقاً من نوى وجوى، ما يجعلك تقبض على قلبك كي لا يفرّ من قفصه الصدري! - بغداد: ذات فجر، حينما كانت بغداد.. بغداد، ثمة صهيل لخيول الفتح، وثمة سيوف هندية تلمع شهباً كعيون الرجال.. الرجال، وثمة شعر وشعراء، وثمة زهو بأنك عربي، وفقط، يكفيك أن تتمشى في شوارع بغداد حينها، وتشعر به، كان تمام الليل، وكنت أبحث عن ظل أبو نواس، وأصوات من خطفوا على المدينة في حاضرها وغائبها، منهم من أستحق قبراً من تراب وزعفران، وشجر غار، ومنهم من عاندته المدينة فلم يحظ لأسمه أو رسمه بشبر من طهر أرضها، كان فجراً ليت شمسه ظلت متوارية، لأني كنت قاب قوسين أو أدني من أن أتبع الدرويش في دربه الصوفي، متعكزاً على الآيات والبسملة وما خطه الورّاقون، وأنشد به العارفون، كنت ساعتها بخفة غيمة لا تسعها سماء! - بيروت: في شتائها الجميل في منزل صخري كأنه نحت من ضلوع جبل، بتلك المدفأة التي تبعث رائحة احتراق الحطب، وفرقعة الكستناء، وتلك الألفة للجلسة المنزلية، وأصدقاء حميميون جاؤوا من زوايا متباعدة، جالبين معهم ما تؤرثه الأسفار البعيدة، وما يخزّنه الحنين، كانت ضحكات من الخاطر، أصداؤها قلوب الأصدقاء، وكانت امرأة غادرتنا ونسيت عطرها في المكان، غادرتنا غير أنها تحتل الذاكرة!