ميزة المدن الانفتاح، والترحيب بالآخر، وتظل ضاحكة على الدوام، لا يليق بالمدن الجميلة العبوس، هي كالنساء، فكيف إذا حاصرتها بنظام سياسي واقتصادي لا يرحم، وهي لا تملك بحراً، في هذا الأسبوع حظيت بزيارة مدينة دوشنبيه، عاصمة طاجيكستان، وزّرت برلين، وكلتا المدينتين لها تجربة سابقة وقاسية مع النظام الاشتراكي، وما يتبعه من التزامات صارمة، وحياة لا تخلو من شظف العيش، والاكتفاء بما وجد، والنوم مبكراً، ولا ثمة تطلعات نحو أفق جديد أو مستقبل يمكن أن يشيده الآخر لنفسه وأولاده، إلا إذا ما دخل في معترك سياسة الحزب الواحد، ودار في فلك الحكومة، وحرم من حريته الشخصية، وحرية التفكير، وأصبح رهين المحسوبية، والتفكير المحدود والموجه. كنت خلال تجوالي أتفكر كيف كانت الحياة منذ الخمسينيات وحتى الانهيار المدوي للمعسكر الشرقي، وتفتت الاتحاد السوفييتي في أواخر الثمانينيات، لا حرية لممارسة الدين، وطمس اللغة الوطنية، وفرض لغة قومية جديدة، ففي مدينة دوشنبيه في تلك الفترة غير البعيدة، كانت المساجد خاوية، والحرف العربي الذي تكتب به الطاجيكستانية تحول لحرف روسي، وأعيد تشكيل تفكير الجيل الجديد، وبناء أيدولوجية لم يعتدها الطاجيك، وهجّروا أناساً من أماكنهم، وأحلوا أقواماً من قوميات أخرى مكانهم، ليذوب الجميع في بوتقة واحدة، وتتماهى الأعراق والأجناس والمعتقدات، مع إبطاء التقدم والتطور في مدن الهامش لصالح مدينة المركز. ومن زار وعرف مدناً كانت تحت ذلك النير من النظام السياسي والاقتصادي في المعسكر الشرقي، كان يرى البؤس على الوجوه، والأسمال البالية والموحدة والرخيصة على الأجساد، ولا قناة تلفزيونية أو إذاعية إلا تلك الحكومية التي تجلد الناس بأخبار موجهة وباردة منذ أيام، وأفلام عادة ما تكون مكررة، فلا يبقى للناس إلا ذلك المشروب الوطني الرديء الذي يجبرهم على النوم مبكراً، ونسيان نعيم الحياة، وليونة العيش، وتنفس الحرية، برلين الشرقية رغم كل الذي عمل من أجلها لكي لا تشعر بغيرة من أختها برلين الغربية، وبعد تحطيم الجدار المانع، فإن هناك رائحة للحرب باقية، وثمة كآبة تأتي مع المساء، وبؤس ما انفك يطارد الناس، كم هي بشعة الحرب، وبشع الحصار، وبشع السجن الذي توضع فيه المدن، دوشنبيه الجميلة، وبرلين الخضراء لا تستحقان الحصار والسجن!