كل من ينتمي إلى هذا العصر بتطوره العلمي الهائل وتعدد معارفه، التي لا يستطيع الفرد حصرها وتصنيفها، يدرك أن القراءة ضرورة قصوى لاستكمال المفهوم المتطور للإنسان المعاصر. فالحاجة للقراءة وضرورتها لا تكمن في كونها تضيف معارف متجددة على الدوام للإنسان، وتنقله من خانة الجاهل إلى خانة العارف فقط، هذه نتيجة اعتيادية لمن يقرأ. لكن ما لا يدركه الإنسان إدراكاً مباشراً هو أن القراءة تنهض بطاقة العقل البشري ونشاطه. وهي بذلك تشبه التمارين الرياضية التي تصح البدن، وتقوي العضل، وتضبط الوظائف الفسيولوجية للجسم. وهي تشبه الغذاء المتكامل الذي يمنح الصحة، ويقوي المناعة ضد الأمراض التي تتوافر أسبابها في الطبيعة، كما في مجمل تعاطي الإنسان مع الحياة. وإذا اتفق العلماء على أن كلاً من الرياضة والغذاء يسهمان في الحفاظ على الصحة الجسدية والنفسية للإنسان، فإن اكتساب المعرفة بوساطة القراءة يمنح الصحة النفسية مناعة ضد الاختلال الذي يطرأ على الشخصية، نتيجة ما قد يتعرض له الفرد من اضطراب في الظروف الخاصة أو العامة. وبحكم الحياة، وواقع الأحداث الراهنة، فإن كل إنسان معرض لمثل تلك الاضطرابات. وإذا كانت القراءة تنهض بنشاط العقل، وتطلق طاقته الكامنة من أسر الرتابة التي تولد الإحساس بالسأم والملل والكآبة، وتعمل في الخفاء على قتل الحماس والطموح والخيال والإبداع والمبادرة، فإن العقل النشط، العارف، المدرك، يقوم بتوليد الحماس، ويجدد الطموح، وينشط بخياله للإبداع والابتكار وتطوير ذاته وواقعه. والقراءة، بوصفها قيمة إنسانية مبدعة، تمنح الشخصية أسباب قوتها ووهجها وحضورها ونضج منظورها للحياة والاحداث. إن الفهم العميق للحياة وإدراك تحولاتها، ومعرفة أسباب ظواهر الكون والوجود والنفس البشرية، وتحولات الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية في المجتمع الواحد، وحدود الحق والواجب للفرد والجماعة، لا يمكن أن يتم إلا بالقراءة الدائمة المنظمة، التي لا تنحصر في حدود ضيقة. القراءة في الكتاب حالة عليا من التوحد بالنفس، تجعل المعرفة تذهب عميقاً إلى العقل الباطن، لتجد طريقها إلى السلوك والموقف من الحياة والأحداث والآخر. تمنحك تطوراً وارتقاءً في شخصيتك. تمنحك صفة العارف وسلوك المستنير. هذا سر من أسرار الكتاب، سره العظيم الذي رسم الحد الفاصل بين بدائية الإنسان وتحضره اللاحق!