تلك إضاءات تلمع في الرأس حين تحاول أن تعد البلدان والمدن في رحلة السفر التي بتذكرة متقلبة حسب الظروف، وبحقيبة متأنقة دوماً، حين تستجمع أشياءك، وتقول: لقد كنت هنا، وكنت هناك، تتذكر حين زرت صنعاء القديمة، وأجبرت أن تعيش يومها كما هو، بما فيه حلقات المقيل وتخزين القات، ودخول تلك البيوت الجبلية من أبوابها، كيف ارتد بك الزمن حين امتلأت رئتاك بغبار التاريخ، أو حين دخلت مطعماً في الجزائر العاصمة، طالباً أكلاً مما وجد، مستنداً على بطاقة ائتمان فقط، ودنانير قليلة، وفرنسية بطابع مدرسي مهذب، ويصرّ صاحب المطعم من دون أن يلقي عليك التحية أن يعرف جنسيتك، حين رأى ربكة الجوع في عينيك، فتقول إن قلت له من الإمارات، ستكثر أسئلته، ولن تتوقف، فلا تعرف من ألهمك، وقلت: «مصري» للسهولة، واختصاراً للوقت، ومحبة لمنظر تلك الدجاجة المحمرّة، والتي تدور على الحديدة مع أخواتها، فيرفض أن يقدم لك شيئاً، ولو دفعت بالدولار، حدث ذلك عام 1979م، وكان السادات قد عاد لتوه من زيارة إسرائيل، سهرة مع مطربة في عيد ميلادها الثامن والعشرين في بلغراد، حيث طافت بك المدينة على نغمات من حزنها وفرحك حتى ذاك الصباح الذي لن يتكرر، ظفار بين تاريخ تناقله الرجال، وتاريخ معطر ببخور اللبان، بغداد والفجر وأصدقاء أصروا أن يؤذنوا في إذنه، وكلاب مسعورة تركض خلفنا، في ليلة ملوكية استثنائية، خارقة للعادة في المغرب، الريف الإنجليزي الجميل، والرومانسية التي كادت تقول لك: «أقعد هنا.. أو تقاعد هنا..»! مشاغبات باريسية لا تنتهي، أثيوبيا والنوم عند عائلة حين انقطع بك الحال، والمقامرة الناجحة في النادي الإيطالي، كيف تبحث عن شخص في الهند الكبيرة، لا تعرف إلا اسمه الأول، وبعضاً من صفاته فقط؟ في تلك الرحلة العذبة كانت هناك عذابات ليل، وصوت «ساكسفون» هو صديق الليل الوحيد حينها، كانت صباحات مدن للفجر فيه رائحة أنثى، هي نهارات تتبع فيها ظلك، كاميرتك هي عكازتك التي تجمّد فيها اللحظات الإنسانية، مأخوذاً خلف ظلال الناس البيضاء، تأسرك الوجوه، وحركة الزمن عليها. هي حقيبة مسافر لا تخلو أبداً.. هي ذاكرة مسافرة من بلد إلى بلد، تغوص بعيداً في المدن، وعميقاً في الأشياء، وفي الروح، متعبة للغاية لأنها تنحت في اللغة، وتنبش في المفردة، وتستقرئ الحالات، قد يجد القارئ نفسه ضمن تفاصيلها، ولو كانت أموراً شبه شخصية وحميمية، وتحمل هماً خاصاً جداً.. لكننا نتشابه قليلاً أو كثيراً، ثمة نقاط تقاطع تجمع خطوات الأقدام، ورؤى الأحلام ورؤياها، ولو أننا نمنا في أسرّة مختلفة!