آهٍ لو ألمس المسافة. أصعدُ ذيلَها الطويل خارجاً من قدرٍ كان يشدّني إلى قدرٍ أصنعُه بيديّ. وآهٍ لو ألبس الغيمةَ قبعةً والمطرَ بدلةً شفافةً وأطوف في الغابات منتمياً للطيور والأغصان العالية. وأهٍ لو أقطف الشمس قبل غروبها وآكلها مثل برتقالة وأنا جالسٌ على بحر الرحيل المستحيل. كم تمنيتُ السفر في الرسائل التي تنهبها الريح ولا يقرأها أحد. وكم اشتهت روحي لو يخطّني الشعراءُ حرفاً في القصائد المشتعلة، ويرسمني الأطفالُ قميصاً يتطاير في ثوران العاصفة. كانت الأرضُ تدورُ وأنا واقفٌ في منتصف الجهات الأربع. عن يميني النارُ يظنها المرتجفون وجه الشيطان، ويراها المنتصرون لسان الذهب. وعن شمالي رجلٌ عجوزٌ يكحُّ على التواريخ وقد تشرّب في صدرهِ غُبارها. أنظرُ للأمام حيث الضوء سيظلُّ ينأى وأنا أطاردُ العصافير نحوه، أُلملم الريش الساقط من تغاريدها بالأمس، وأبني هنا الآن مستقبلي. أحملُ الماضي على ظهري مثل صرّةٍ من فضةٍ قديمة، وأحمله في قلبي مثل مفتاحٍ من خشبٍ محروق، أدقُّ به على أبواب الذكريات أفتحها وأُقفلها كما أشاء. سائراً بين الحشودِ وجدت نفسي في القطيع صفراً بين أصفار. جالساً مع المنتظرين في محطة الصبر، وجدتُ شكلي ظلاً تدُوسه القطارات التي تمرُّ ولا يراها أحد. ثم انتبهتْ عيوني إلى الكلمة وهي تنام بكراً في سرير كتاب. وإلى النجمة وهي تومضُ قبل تثاؤب الليل في وجه النهار. ثم رأيتُ الأقلامَ تمشي في طوابير وتصفعُها يد الخوف على رقابها. وسمعتُ عن مدّاحين غُمّستْ ألسنَتَهم في الطحين ومن غنائهم وُلد الثُغاء. وكان ذلك مجرد صفحةٍ علّقُتها على جدار الخيال، لكنها سقطت سريعاً حين تأخر بريد الأمل، وداستها حوافر الطفولة، ودسّها النسيان تحت إبطه وغادر. النأيُ بالروح بعيداً عن ثرثرات الخلق، صفةٌ للفيلسوف. لكنها عندي شكلاً للمصيبة في صورتها الصغيرة جداً. عندما يتواجه الضدان في قلب الحيران وينكسرُ قمر السؤال على رأسه. وعندما يحملُ الصمتُ بشائر الخلاص، وما من خلاصٍ سوى الموت. وعندما تصير الحقيقة دراجة هوائية ويصعد ظهرها من يشاء وينزل من يشاء. وكأن الذي قِيل بالأمس، سيظل نهراً جارياً ولن يتغير مجراه ولا صداه. وكأن ما سيقالُ غداً، مجرد ترفٍ كي لا يختفي الكلامُ من الكلام. دارت الأرضُ مليون مرةٍ، ولم يشعر الإنسانُ بعدُ بالدُوار. وأنا أراقبُهما كل يوم من علوّ نسرٍ ، وجناحاي من ورقٍ القصيدة، ومقلتاي مغمضتان.