«لو دامت لغيرك ما وصلت إليك»، مثل قديم نعرفه جميعاً، لكن الكثيرين يغفلون عنه ما إن يجلسوا على «كرسي» ما، وينسون أن المسؤولية تكليف وليست تشريف. يظن الواحد منهم أنه - بجلوسه على هذا الكرسي- قد صار بمأمن من نوائب الدهر ومصائب الحياة ونكبات الأيام ورزايا الزمن وتقلب الظروف وتبدل النفوس ودوران الطاولة. يتعامل مع الكرسي وكأنه درع وقاية من الرصاص في المعركة الجارية في دماغه وتصبح الحياة بالنسبة له معركة دائمة، يملأها بالمعارك الصغيرة التافهة، ينغص بها عيش من حوله. ينتابه شعور يقيني بأن هذا الكرسي هو كوكب الأرض، وأنه عليه الملك المتوج؛ فيبتدئ في التصرف مع البشر مثل عبيد، ويستمرئ تملق الضعفاء والجبناء منهم له حتى يخال نفسه وقد صار الرب المعبود، يعطي ويمنع وفقاً لهواه وما يراه في عُلاه. نفسيات كهذه لا تتطور إلى هذا المستوى إلا لأنها جاءت من فراغ تام. فراغ فكري وروحي وأخلاقي وإنساني شامل، فهي بدون ذلك الكرسي عارية تماماً بلا أدنى قماشة أخلاقية وفكرية تستر عريها. ما إن ينزاح هيلمان الكرسي حتى تراهم مثل ورقة خريفية يابسة لا ثقل لها ولا وزن، تلعب بها الريح كيف تشاء، وتتكسر عند أول اصطدام مع الحياة. فطوال الوقت أخذتهم «الحالة» حتى أهملوا التزود بماء وزاد يروي جفاف الفكر ويداوي جفاء الروح. تنسى هذه الشخصيات أنها مجرد ورقة لعب كان حظها أن تكون الرابحة في فترة ما لظروف ما، وأنها سرعان ما تحترق تحت الطاولة التي تدور وتدور معها الكراسي في لعبة أزلية مستمرة. الإنسان قيمة في حد ذاته، ما إن يجعل من الثياب التي يرتديها والمركبة التي يقودها والبيت الذي يسكنه والكرسي الذي يجلس عليه هو قيمته حتى يُصبح مثل كل تلك الأشياء؛ مجرد «شيء»- وإذا تشيأ الإنسان فقد قيمته. المسؤولية تكليف، فلا تجعل من الكرسي ورقة شجر تستر عريك، فإذا سقطت انكشفت سوءتك وأسقطتك من السماء لقعر الأرض. لا تكن كآدم في خطيئته، وإنما كن دوماً كآدم في توبته وإنسانيته. كن عزيزاً بذاتك، قيّماً بفكرك وعمق رؤيتك وحقول الأسئلة التي ترعاها بتواضعك وإحساسك الدائم بالجهل والتقصير، وهكذا تظل دوماً باحثاً في حقل المعرفة، تلميذاً في مدرسة الحياة، طفلاً أمام كل تجربة إنسانية، وبذلك فقط تصغر وتصغر في عين نفسك حتى تصبح كبيراً جداً في عيون الآخرين، وأكبر من كل الكراسي، لن يتمكن أي كرسي من التسلل إلى نفسك مهما طال جلوسك عليه. تُصبح عليه خادماً للناس فتكون عليهم ملكاً دائماً لن تُؤثر عليه أبداً لعبة الكراسي.