الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عبد الكريم غلاب في السجن «الانتدابي»

عبد الكريم غلاب في السجن «الانتدابي»
23 أغسطس 2017 20:43
...ينتمي كتاب «سبعة أبواب» للأديب المغربي عبدالكريم غلاّب إلى ما يمكن وصفه بـ «أدب السجن». لكنّ غلاّب لم يكتب رواية عن السجن في ما تفترض الرواية من تقنيات وعناصر، بمقدار ما كتب سيرته داخل السجن الذي أمضى فيه زهاء ستة أشهر. على أنّ السيرة هنا لن تكتسب مواصفات «السيرة الذاتية» كما حُدّدت نقدياً ونظرياً. وإن حَسُنَ للناقد المصري محمد مندور أن يسمّي الكتاب في تقديمه إياه بـ «الذكريات»، فهو كأنما يسعى إلى عدم إدراجه ضمن سياق الأنواع الأدبية أو في خانة محددة. ويشير في المقدمة إلى أن «الجانب القصصي فيها (أي الذكريات) ثانوي الأهمية إلى جوار المضمون الإنساني والوطني». ولعل «الذكريات» التي قصد إليها محمد مندور لا تعني «المذكرات» أو «اليوميات» المتعارف عليهما. وإن كان يصعب وسم كتاب سبعة أبواب بـ «المذكرات» فإن من الصعب أيضاً تسميته بـ «اليوميات «فالكتاب ليس مجموعة خواطر أو أخبار أو تأملات يدوّنها الكاتب يوماً تلو يوم وعبرها يتزامن السرد والحدث معاً، مما يسمح نقديا بإدراجه في خانة «أدب السيرة». فكلمة «أدب» هنا تتيح لهذا الكتاب أن يتحرر من شروط «السيرة الذاتية» ومن ربقة الأنواع الأخرى (اليوميات، المذكرات...). فالكاتب الذي لم يسمّ كتابه رواية أصلاً أدرك أن ما كتبه عن تجربته في السجن لا يمكنه أن يخضع للتصنيف الجاهز، فآثر أن يدرجه في الجزء الثاني تحت عنوان «السيرة الذاتية الروائية». وكأن الكتابين الآخرين الماثلين في هذا الجزء (سفر التكوين والشيخوخة الظالمة) يمثلان مع «سبعة أبواب» هذه السيرة. حتماً ليس الكتاب رواية حتى وإن لامس تخوم الفن الروائي سواء عبر فعل السرد أو عبر النماذج البشرية التي يقدّمها، لكن ما ينقصه هو البناء الروائي الذي يعتبر العنصر الأساس في الصنيع الروائي، علاوة على عناصر أخرى مهمة أيضاً كالزمن والتخييل، ناهيك بما يسمى «شبكة العلاقات»، وهذه تهدف إلى ربط عناصر الرواية بعضها بالبعض الآخر لتؤلف كيان الرواية. الخلفية التاريخية للوقائع قد تكمن أهمية هذا الكتاب في «هجانته» الأدبية بمعناها الإيجابي. فمثلما هو يرفض الانضواء تحت خانة الأنواع يرفض أيضاً أن يرسم الحدود بينها، فهو ينفتح على الأنواع كافة محاولاً الإفادة منها، ولكن من غير أن يأسر نفسه ضمن أي نوع، فهو مثلما ينتمي إلى «أدب السجن» كما جرت الإشارة سابقاً، وينتمي أيضاً إلى «أدب السيرة»، وهذا المصطلح يدل على أن النص هنا يضحي شهادة عن حياة أو تجربة أو بعض من حياة وتجربة. أما عبارة «أدب السجن»، فتمثل الكتاب خير تمثيل. فالأدب المغربي المعاصر عرف الكثير من الأعمال التي تحلّق في أفق هذا الأدب. ويكفي قراءة الروايات والقصص والقصائد التي كتبها أدباء من أمثال: عبداللطيف اللعبي وعبدالله الشاوي والطاهر بن جلون وسواهم، وهذا الأدب المغربي (أدب السجن) ليس غريباً عن مثيله في مصر وسوريا ولبنان والأردن وسواها من البلدان التي عرفت مثل هذا الأدب. قد لا تكتمل قراءة «سبعة أبواب» إلا عبر إلقاء ضوء على المرحلة التاريخية التي حصلت فيها الوقائع التي يرويها الكاتب نفسه متلبّساً شخصية الراوي. وهو لم يتلبّس هذه الشخصية إلا ليجعل «الأنا» أو الضمير المتكلم بيّن الحضور واضحاً تمام الوضوح. فالنص لا يتخلى لحظة عن واقعيته زماناً ومكاناً، حتى وإن اغرق أحياناً في الذاتية أو في النزعة الرومانطيقية، لكن الواقعية لا تعني الوقوع في التقريرية والمباشرة. إنها واقعية يلتقي عبرها التاريخ والحاضر، الذات والآخر، الزمان والمكان، الحلم والثورة، الوصف والتأمل. واللافت أن الكاتب لم يحدد التاريخ الذي تجري فيه الوقائع (الأحداث) على رغم كلامه عن السجن والاحتلال الفرنسي وحزب الاستقلال والنضال ضد الاحتلال وسواها من التفاصيل. وقد يفترض القارئ &ndash لو عاد إلى كتاب التاريخ- أن الوقائع تحصل في مطلع الخمسينيات إبان الصراع السياسي والعسكري الذي جرى بين المحتلين الفرنسيين والمناضلين المغاربة على اختلاف فئاتهم وطبقاتهم. حينذاك كان حزب الاستقلال الذي تأسس سنة 1934 في طليعة الحركة النضالية، وكان الملك محمد الخامس قد أصبح محور النضال الوطني الاستقلالي. وقد تبدّى ذلك واضحاً عندما زار طنجة سنة 1947 وألقى فيها خطبة عن ارتباط المغرب بالعالم العربي وعن رغبة الشعب المغربي في نيل حريته. وفي تلك الفترة عمدت حكومة الاحتلال الفرنسي إلى ترغيب بعض الفئات لتخلق حالاً من الفتنة الداخلية تنتهي لمصلحتها. وراحت تدعم نفوذ الجلاّوي باشا حاكم مراكش ليعينها على المناضلين الوطنيين. وقد استخدمته سنة 1951 مع أتباعه من الجماعات القبلية الذين وصلوا إلى الرباط بمساندة الجيش الفرنسي. وحاولت الحكومة الفرنسية التخلص من محمد الخامس لكونه رمزاً للنضال والتحرر، فحاصرته ونفته، لكن عودته إلى العرش منتصراً في 18 تشرين الأول (أكتوبر) 1955 كانت بمثابة التاريخ الجديد للشعب المغربي والمملكة المغربية. تشكّل هذه الوقائع الخلفية التاريخية للكتاب الذي لم يشأ صاحبه أن يورد فيه أي تاريخ أو تقويم تأريخي في حين يتحدث جهاراً عن المناضلين والملك محمد الخامس وحرب الاستقلال والاحتلال الفرنسي والجهات المغربية التي تعاونت مع الاحتلال. ربما ترك الكاتب للقارئ مهمة العودة إلى التاريخ ما دام هو يكتب أدباً يجمع بين تجربة السجن والقمع وتجربة التحرر والاستقلال. أرقام في ليل السجن في مستهل كتاب «سبعة أبواب» يجاهر الكاتب بصفته راوياً (حقيقياً وليس مختلفاً) قائلاً: «لم تكن المرة الأولى التي عرفت فيها السجن». وهو لا يعلن هذا الأمر إلا ليؤكد أنه دخل السجن راضياً مطمئناً عن طريق النضال ضد الاحتلال. لكنّ ما يبوح به الراوي &ndash الكاتب على المستوى الشخصي هو أنه كان صحفياً بل رئيس تحرير لإحدى المجلات، لكنّ الصحافة في نظره أصبحت غير ذات موضوع منذ سيطر الاحتلال على كل المرافق في البلاد. يعلم القارئ أيضاً أن له زوجة وابناً وأن شقيقيه أوقفتهما سلطة الاحتلال بسبب نضالهما. إذاً لا يوضح الراوي &ndash الكاتب ملامح شخصيته وكأنه شاء لنفسه أن يكون مناضلاً أسوة برفاقه الوطنيين الذين وجدهم لاحقاً في زنزانات سجن «العدو». ولم يكتف بعدم تسمية نفسه في الكتاب، بل عمد أيضاً إلى عدم تسمية رفاقه في الزنزانات وكأنهم جميعاً غفلٌ ومجهولون أو مجرد أرقام في ليل هذا السجن. واللافت أن الراوي يكتفي بتسمية بعض النماذج الأخرى التي لا تنتمي إلى عالم المناضلين من أمثال السجّان الذي يدعى «البال مال»، أو عريف السجن الذي يسمى «فويلة»، أو السجين الذي يُدعى «الباريزيان»، وهؤلاء لا بد من العودة إليهم كنماذج داخل السجن الذي يشبّهه الكاتب بالمجتمع الصغير الذي يضمّ الأذكياء والمجرمين والشجعان والموهوبين والمغامرين. أوقف الراوي إذاً في مرحلة من أشدّ المراحل غلياناً سياسياً ونضالياً. كانت حكومة الاحتلال تترصد الاستقلاليين والوطنيين والمثقفين لعزلهم خلف الأسواء ووراء الأسلاك الشائكة. وكانت المدن المغربية الكبرى قد بدأت تعلن حربها ضد الاحتلال، وارتفعت أصوات الثوار في مراكش والدار البيضاء ومكناس ووجدة وفاس. وكان الحصار قد بدأ يضيق على الملك محمد الخامس في قصره. كانوا أربعة عندما جاؤوا يعتقلون الراوي - الكاتب: ثلاثة فرنسيين ومغربي يصفه الراوي بأنه «شبه أمّي»، مهمته أن يترجم للفرنسيين ترجمة ضعيفة. فتشوا منزله بحثاً عن وثائق تدينه وما لبثوا أن اصطحبوه إلى مركز الشرطة الفرنسية. هناك طُرحت عليه الأسئلة: ماذا عن نشاطك الوطني؟ ما مهمتك في الحزب؟ ثم كيلت له التهم وفي مقدمها: «أنت من المسؤولين عن تجديد نشاط الحزب الممنوع والمحظور». وفيما كان أحد الشرطيين يسجّل اعترافاته كان المستنطق يسأله بالفرنسية فيرد هو بالعربية. روح الشعر والسخرية يسعى الكاتب إلى اعتماد عنصر السخرية منذ الصفحات الأولى في الكتاب، وتظل السخرية عنصراً بارزاً حتى النهاية. وقد أشار إليها محمد مندور في مقدمته قائلاً: «وهذه الذكريات تجمع أيضاً بين الروح الشعرية وروح السخرية. فالكاتب يرتفع فيها أحياناً إلى سماوات الشعر كما يجنح أحياناً أخرى إلى نوع من التهكُّم والسخرية اللاذعة من المتآمرين وشرطتهم التافهة الحقيرة، ويلجأ في عدد من المواضع إلى القصص الصغيرة التي تنطق بهذه السخرية اللاذعة، مثل رشوة هذا الحرس أو ذاك بقليل من الطعام أو المال أو بالوعود الخلابة». لعل النبرة الساخرة التي اعتمدها الكاتب في كتابته عن التجربة الأليمة داخل السجن تدل على أن السخرية كانت قادرة على هتك الحصار الداخلي وعلى فتح كوّة داخل ذاك الظلام. إنها السخرية الملطّفة، السخرية التي تحافظ على طابعها الإنساني الأليف حتى وإن بدت على قدر من العبثية في أحيان. منذ أن دخلت الشرطة عليه في المنزل شرع الراوي &ndash الكاتب في السخرية التي لا تنتهي إلا في اللحظات الأخيرة من الأسر، حين يبقى وحيداً في زنزانته وحين يخرج من ثمّ تحت ذريعة «الإفراج الموقت». يسخر مثلاً من شخصية أحد المفتشين الفرنسيين مسمّياً إياه «ثالث الفرسان»، ويمعن في وصفه كاريكاتورياً قائلاً: «كان مفتشاً سميناً، تنوء ركبتاه بحمل بطنه والإضافات... وكان وجهه كالحاً لا يعبّر إلا عن حقد دفين، لا ابتسامة ولا كلمة إلا النابي منها والفظّ. وكنتُ أشعر أنه جدّ مقيّد، فهو- في ما يظهر من هواة المصارعة داخل زنازين الشرطة «. غير أن الحياة الجماعية داخل الزنزانة لا تعني أن السجين لا يغرق في عزلته الفردية أو الذاتية. فالسجين يظل وحيداً مهما تكاثر الأصدقاء- السجناء من حوله. ها هو ذا السجين- الراوي يسأل نفسه: «ماذا أعمل؟ بأي عمل ابتدئ يومي؟». لكنه يدرك جيداً أن «لا شيء سوى الجلوس في بلادة، أجتر أفكاري». يفتقد السجين في الزنزانة مبدأ الحياة. فالجدران تفصله عن الحياة نفسها، و»لا أحد ولا حدث ولا كتاب ولا صوت إنسان يخرج نفسك عن الصمت الرهيب»، يقول الراوي- الكاتب، بل هكذا يتأمل حياته والحياة التي تجري من حوله وكأنها ليست الحياة. هكذا يروح الكاتب يتحدث عن السماء التي كان يتاح له أن يراها خلال دقائق في النهار كله قائلاً: «أعتقد أنني لم أر السماء جلية بهية مترعة بالحسن كما رأيتها من خلال المثلث».  يستحضر عبدالكريم غلاّب في كتابه البديع هذا تجربة السجن كما عاشها عن كثب بل كما عاناها وقد نجح في بلورتها عبر أسلوبه الأدبي الجميل والمتين من خلال مخيلته التي كانت وفية في استعادة تلك التجربة الفريدة. أكثر من  40 كتاباً  لـ«غلاب» ترك «غلاب» أكثر من أربعين كتاباً في حقول عدة، كالرواية والمذكرات والقصة القصيرة والنقد الأدبي والسياسة والتاريخ وعلم الاجتماع. ومن أعماله: الاستقلالية: عقيدة ومذهب وبرنامج، هذا هو الدستور، نبضات فكر، في الثقافة والأدب، سبعة أبواب: تقديم محمد مندور، مات قرير العين: قصص، دفاع عن الديمقراطية، دفنا الماضي، رسالة الفكر، الأرض حبيبتي، المعلم علي، من مكة إلى موسكو، دفاع عن فن القول، صراع المذهب والعقيدة في القرآن، ملامح من شخصية علال الفاسي، مع الأدب والأدباء، الثقافة والفكر في مواجهة التحدي، 1976. أخرجها من الجنة: قصص، الفكر العربي بين الاستلاب وتأكيد الذات، التطور الدستوري والنيابي في المغرب: من سنة 1908 إلى سنة 1977، المنظور الاستقلالي للسياسة الوطنية الاقتصادية والاجتماعية، الفكر التقدمي في الإيديولوجيا التعادلية، الوضع الاقتصادي والمالي في المغرب، عالم شاعر الحمراء، الدار البيضاء، مع الشعب في البرلمان، تاريخ الحركة الوطنية في المغرب: من نهاية حرب الريف إلى بناء الجدار السادس في الصحراء، شخصية محمد الخامس، من اللغة إلى الفكر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©