لأنها مدينة اللون والألوان الفرحة، لأنها تظل تضحك حتى شقشقة الفجر، ولا تمل السهر، لأنها مدينة تجاور البحر، ومفتوحة على العالم، لا تفرق بين قريب وغريب، لأنها مدينة معلقة بالحياة، وبرونق ما يحمل الورد من عطر، وما تخبئ السماء من مطر، لأنها برشلونة الضاجّة بالألوان، وصراخ الضحكات التي لا تنتهي، لا يليق بها ولا لها الأسود، ذاك الذي غطى مساءها غير المعتاد، وكأن شحاذاً غريب الأطوار استل سكيناً صدئة من إحدى المزابل، وغرزها في خاصرة سيدة متأنقة غادية لحفل ملكي، وفجأة شهقت بفرحتها المخبأة في الصدر المضمخ بأسرار من خليط الزهر، وضوع الجسد الأنثوي، كذلك من فعل بمساء برشلونة التي لا تستحق إلا الفرح، والتباهي بألوان الحياة، وزينة الدنيا. لا تدخل مدينة مثل برشلونة، ولا يسبقك الشعر لها، لا تدخلها، ويبقى فيك شيء من دنس النفس غير الأمّارة بالحب، مدينة صنعتها الفرح، ولا تغيب عن سمائها ألوان قوس قزح، فمن يريد بها شراً، وهي الوادعة مع أحلامها، وضحكاتها المعطرة؟ كيف طاوعت نفس ذاك الطاغوت أن يرمي طفلة بمهدها قرابة أمتار عن يدي أمها؟ كيف زاغت أبصار صبايا بعمر الزهر، وكيف روعها اصطدام الأجساد بالحديد؟ وكيف تبتر الساق، وتلتف الساق بالساق، وكيف ينغرس الحقد في اللحم الطريّ؟ برشلونة.. والحزن عابر كريح استدعاها بحرك ليطبعها بلونه الأزرق البارد، قبل أن يسلمها لشراع أول مركب غاد، والأسود كلون تكتحل به العين مرة، لتضفي عليه من بريقها، وسحرها الدفين. أمام فعل الشر الذي يخجل الشيطان منه، تقف الكلمات متعثرة، تدفعها مرارة الفم، ولا جواب يمكن أن يقنع الإنسان، فالأسئلة متزاحمة يخونها النطق، فالفعل أفدح من أن يوصف، ولا دواعي تبرر خيانة الإنسان لنفسه، ولعاطفة صغيرة تسكن قلب أعتى الطغاة والظالمين أنفسهم، ويمكنها أن تقدح شرارة خامدة في العقل، وإنْ انطفأ، فقط لتذكّره في لحظة الجنون، أن هناك كائنات تشبه خيوط النور، وأثير الجنان، لم يعرفوا الدنس بعد، ولَم يتلوثوا بشرور الإنسان حين يطغى بعد، وأن حليبهم المسائي تحرسه الملائكة، وينتظرون عودتهم لأسرتهم القطنية البيضاء، ليسلموهم أحلامهم الملونة مع أول إغماضة حين تتراخى الرقبة الرطبة على مخدة من الدفء الأُسَري، لكنهم في مساء برشلونة الأسود الحزين هذا، أغمضت جفونهم على الدم المتخثر، وكانت إغفاءتهم الأخيرة، وعيونهم شاخصة تناظر شكلاً من دخان، وبلون الغربان!