الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في «حضرة غياب» محمود درويش

في «حضرة غياب» محمود درويش
15 أغسطس 2017 21:41
ـ1ـ أول لِقاءٍ لي بشعر محمود درويش تمثل في قراءتي لكتاب رجاء النقاش عنه: «محمود درويش شاعر الأرض المحتلة» الصادر عام 1969 وهي القراءة التي قادتني على الفور إلى قراءة عملين له: «عاشق من فلسطين» 1966، ثم «آخر الليل» 1969، وهو آخر ما صدر له في فلسطين المحْتلة قبل خروجه منها إلى منفاه الاختياري. كنت وقتها طالباً في السنة الأولى في كلية الآداب عام 1970 في السابعة عشرة من عمري، أهوى الشعر وأنشر بعض قصائدي في صفحة «أصوات» بجريدة العلم، وبعد عشر سنوات أي في 1979 جرى أول لقاء شخصي لي مع: «سيِّد الشعراء العرب» وفق ما كان يخاطبه به الروائي والناقد إلياس خوري أيَّامئذٍ في مدينتي أصيلة. جاء محمود درويش صحبة مجموعة من الشعراء والنقاد العرب للمشاركة في احتفالية خاصة بالشعر العربي المعاصر بمناسبة انعقاد الدورة الثانية من موسم أصيلة الثقافي وشارك معه أدونيس وصلاح ستيتيه وخالدة سعيد وفينوس خوري غاتا وإلياس خوري في أشغال ندوة انعقدت في اليوم الأول بقصر الريسوني تحت عنوان: «الإنسان في الشعر العربي المعاصر» فيما خُصِّص اليوم الثاني لأمسية شعرية كبرى بنفس القاعة العلوية للقصر شارك فيها الشعراء المذكورون، وضاقت بها جنبات القاعة العلوية والقاعات الأربع السفلية، بالإضافة إلى المحيط الخارجي للقصر لأن محبِّي الشِّعر وشعر محمود خاصة جاؤوا من كل مدن الشمال. كان ديوانه «أعراس» آخر ما صدر له، وأثناء تجوالنا في الشارع البحري للمدينة قبيل منتصف النهار وكنا ثلاثة: إلياس خوري ومحمد عز الدين التازي وابن عبد ربِّه لم يتوقف محمود، وهو رابعنا عن وَضع توقيعاته على نُسخ من ديوانه الجديد. ـ2ـ قَبْل هذا اللقاء التاريخي بسبع سنوات كُنْتُ بعد توطُّد معرفتي بشعره، كتبتُ دراسة مستفيضة عن ديوان له حديث الصدور حينئذٍ هو: «أحبك أَوْ لَا أُحبّك» لَمَسْت فيه كشوفاً ولُقيات شعرية جديدة ليس بالنسبة إلى شعره وحسب، بل بالنسبة إلى الشعر العربي المعاصر، وقد اتخذتُ من قصيدته «سرحان يشرب القهوة في الكافيتريا» نموذجاً تحليلياً أبرزتُ فيه العناصر الدرامية والجمالية الجديدة التي جاءت لتغني تجربة غنائية مشرعة على التجدُّد والإدهاش. ـ3ـ بعض من حديثي معه في أصيلة كَانَ عن «أحبك أو لا أُحبّك» وعن «التَّراجعات التكتيكية (إن صح) والفنية» في ديوانه «أعراس» بصورة خاصة، لم يُظهر أيَّ استياء من ملاحظتي النقدية. قال أنا شاعر فلسطيني أولاً، ومأساة تل الزعتر الوحشية أجبرتني على فضح مؤامرة الأنظمة العربية بأعلى صوت شعري وبشروط جمالية مناسبة لإيصال «الرسالة» إلى أوسع القراء. ـ4ـ في أصيلة دائماً، أعني في تلك الصبيحة من يوم 11 يوليو اقترح عليَّ محمود أن نقوم بجولة في الضاحية القريبة من المدينة: «أريد رؤية الحقول والنهر، هل لديكم نهر؟»، قال. تَرَكْنا عز الدين وإلياس خوري يتناقشان في الرواية وذهبنا باتجاه «الوادي الحلو» من جهة «غدير الگناوي»، عند مرورنا بضريح «علي غيلان» توقّف محمود معلقاً: «كم هو بديع هذا المكان، لماذا هو مهمل هكذا؟» قال. قُلْت له: «هنا حفظت القرآن الكريم في بداية الستِّينيات، وفي عطلة الصيف كان يُسمح للبنات بالالتحاق بالكُتاب أَيْضاً» («وهو ما كنتَ تنتظر على أحرّ من الجمر» قال محمود) توقّفنا. لم يحدْ ببصره عن شجرة الخرّوب المسنة الوقور وهو يتأمل الفضاء من دون أن يخطر ببال أحد منا ولا من غيرنا أن هذا المكان الذي أعجبه والذي استغرب لعدم تحويله إلى حديقة هو ذاته الذي سوف يصبح بعد ثلاثة عقود حديقةً جميلة سمَّاها - راعي المدينة الأستاذ محمد بن عيسى - حديقة محمود درويش، في حفل أقيم في الحديقة يوم 9 آب/ أغسطس 2009 بمناسبة الذكرى الأولى لرحيله. ـ5ـ وفي أصيلة دائماً ظهيرة ذلك اليوم وأثناء وجبة غذاء مغربية خالصة أقمتُها على شرف محمود وإلياس وعز الدين في منزل أختي نزيهة غير بعيدٍ عن شجرة الخروب التليدة. جرى الحديث عن الشعر المغربي المعاصر وعن الرواية أوَّلاً ثم عن الأوضاع السياسية في لبنان.. ولَمَّا انتقل الحديث إلى الحالة المغربية أبدى مَحْمود اعتراضاً على ما اعتبره الصديق عز الدين تنازلاً عن الخط التحريري الجذري للاتحاد الاشتراكي من لدن التيار الإصلاحي المهادن للحزب، والمتمثل في عبد الرحيم بوعبيد وأتباعه تجاه النظام الملكي، وأذكر أن محمود قال: لا تنسوا أن المغرب كان محظوظاً جداً بفشل المحاولتين الانقلابيتين العسكريتين مطلع السبعينيات. انظروا إلى ما آلت إليه أوضاع بلدان المشرق من دون استثناء، الملكية عندكم متجذّرة في حياة النَّاس ولها مصداقية وشرعية غير قابلة للتعويض إلّا بمخاطر عظمى لا يمكن التنبُّؤ بمآلاتها. ـ6ـ ثم تجدّدت اللقاءات وتعدّدت بعد ذلك التاريخ في مدن مختلفة وبلدان مختلفة مشرقية وأوروبية، لكنَّني أستحضر من بينها لقاءين: الأول جرى سنة 2000 في الرباط بمناسبة إقامة تكريم له من قبل اتحاد كتاب المغرب تميَّزَ بعقد نَدْوة دراسية حَوْل أعماله أَدَرْتُ شخصياً أعمالها، ثم أمسية شعرية له في «مسرح محمد الخامس»؛ المكان المفضّل لديه للقاء جمهوره. في تلك الأمسية قرأ قصيدته: «جدارية محمود درويش». كما لم يقرأها في أيِّ مكان آخر، ولا زَمَنٍ آخَر. كانت نشيداً ملحمياً «لانتصار» مؤقت على الموت بعد تجربة مرض مريرة عاشها عام 1997. لَمْ يَمُرَّ أَكْثَر مِنْ أسْبُوعين على عَوْدَة محمود إلى عمَّان حتى عُدْنا لنلتقي مِنْ جَديد في الرباط نفسها. كَانَ قَدْ دعِي لِيَحْظى بتكريم مَلَكي قُلّد فيه بِوِسَام رفيع تَقْديراً للقيمة الإبداعية والإنسانية لأعماله الشعرية. وقَدْ حدثنا محمود نفسه بَعْد التكريم الملكي مباشرة، خلال حفل غذاء خَاصٍّ أقامه على شرفه الشَّاعر محمد الأشعري، وزير الثقافة حينئذٍ، عن شعوره بالامتنان إِزاء اللطف والتقدير اللذين أبداهما محمد السَّادس وأخوه الأمير مولاي رشيد تجاهه شخصياً، مع حرصهما على استحضار علاقتهما بشعره في مراحل مختلفة من تكوينهما الثقافي، وأذكر أنه ختم قائلاً: لقد أَحْبَبْت الملك محمد السادس. -7- آخر لقاء لي مع محمود كان في مدريد عام 2007، لكنَّ لقاءنا في قرطبة تواصل لمدّة خمسة أيّام بمناسبة مشاركتنا معاً في المهرجان العالمي للشعر بقرطبة في دورته الثانية سنة 2006. كان الشاعر ديريك والكوت حاضراً، وهو الذي افتتح الأمسيات الشعرية في «قصر قرطبة الأندلسي»، كنت مع محمود لحظة الافتتاح، وقد حدثني بفرح وابتهاج عن صديقه ديريك والكوت وقال لي بأنه شاعر كبير خَلْق إنجليزية جديدة داخل الإنجليزية. كُنَّا نَنْصت معاً لوالكوت وهو يلقي شعره بالإنجليزية، ثم بالإسبانية بصوت المترجمة. لاحَظت - وكنا نتابع القراءة الشعرية وقوفاً من مكان بعيد - أن محمود كان في غاية الانشراح، واستغربت لكون المنظمين لَمْ يُقدِّموه مع ديريك في نفس الأمسية مع أنه لم تكن تنقصه الشهرة ولا الاستحقاق ليُنزَّل نفس المنزلة مع صديقه الحاصل على جائزة نوبل للآداب. في الأمسية الشعرية لليوم الموالي سررت بإلقاء قصائدي مع محمود درويش والشاعر الأميركي مارك ستراند (1934 ـ 2014). وفي الليل بعد الأماسي الشعرية كان الشعراء المشاركون يلتقون حول موائد العشاء القرطبية في عز الربيع. في إحدى هذه الليالي ولدت فكرة تحمس لها الشعراء «المعلمون» و«الشبان» الإسبان والأميركيون والأميركيون اللاتينيون والأوروبيون جميعاً، وهي عقد لقاء شعري كل سنتين يضم نخبة من الشعراء العرب والشعراء الإسبان والأميركيين اللاتينيين لأن كِلَا الجانبين يتميز بالكتابة بلغة شعرية واحدة من لدن شعراء ينتمون إلى أقطار متعددة ومتباعدة. وقد اقترحتُ ليلتئذٍ بكثير من الحماس أن ينظم الملتقى في طنجة بالذات اعتباراً لموقعها الرمزي. وافق الشعراء جميعاً بحماس حتى ممن لا ينتمون لا إلى العربية ولا إلى الإسبانية بما فيهم ديريك والكوت ومارك ستراند.. أما محمود درويش فقد أعلن موافقته بصوت عال بالقول: «أنا مع المغرب ظالماً أو مظلوماً»، ثم انفض جمع الشعراء وبقيت فكرة اللقاء ترنّ كالصدى في سماء قرطبة لبعض الوقت.. ولم تلبث أن تبخرت مع ما تبخر معها وبعدها من أفكار وصدوات وحيوات في قرطبة وأمكنة ماضية وآتية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©