كانت السيارات جميعها متوثبة، وكأنها داخلة في سباق مع التربة والريح، ومع موكب الرئيس، حتى أننا مرات نرى سيارات معطوبة على الطريق، أو منقلبة على جنبها، ورجالاً ينزلون منها ينفضون عنهم الأتربة، منظر ذكرني بمشهد سينمائي لمقبرة الدبابات في معركة العلمين، وإلى أن وصلنا بعد ساعات طوال، وبعد التشهد، نزلنا غير قادرين على القعود أو على القيام، لأن المناورة كانت جزءاً من تلك الرحلة، كما أكدت للوفد الرسمي، أمضينا كل النهار، وأملي أنني بعد أن أرجع وأغتسل، وتمضي سنوات من الراحة، سأتذكر ذاك النهار، وأقول: إنه من الذكريات، أما الآن، فإننا ننتظر طريق العودة، والذي لن يكون معبداً بالورود، لكن في النهاية أمر الرئيس اليمني أن تحضر طائرات نقل بعد أن ساء الجو، وأصبح مكفهراً، وليتنا بقينا على سيارتنا الكسيحة، وسائقها الذي تدرب أولاً على سياقة دبابة، قبل أن يعرف أن هناك كائنات صغيرة يمكن أن تحمله على وجه هذه البسيطة، زج بنا في طائرة الشحن الروسية «أنطونوف» وحين تقول روسية، يعني «حديد صرف»، لا مقعد، ولا نافذة، ولا حزام، وربما شحن معنا وقتها بعض سيارات المراسم التي عانت كثيراً ذلك النهار، كانت تجربة ستالينية، لم تكن طائرة، كانت جهاز عذاب، خاصة والكل كان يتذكر ذلك الغداء اليمني المشبع، ولولا طبيب الرئيس، وما كان يحمله في حقيبته من ممسكات، ومثبطات، وكاتمات صوت، لتهالك الجميع، بعد ذلك اليوم الطويل نام الكل دونما أي هز، وبلا أحلام. لكن بعدها.. جُلت في اليمن وحيداً سائحاً، لكن كرم اليمنيين ألزمني بأن يكون معي سائق غير سائق المناورة، وسيارة غير تلك المتهالكة، ومرافق، فمشّطتها من شمالها لجنوبها، ووقفت في كل مدينة، عند شجرة الغريب، عند قبور الصالحين، في صعدة السلاح، والحديدة الساكنة جنب الماء، في تعز، ولا يمكن إلا أن تسمى كذلك، العند، ذهبت عند بصير اليمن، وشاعرها «عبدالله البردوني» في بيته، ومكتبته، قيّلت معهم في مقيلهم، وتطاعمت من قوتهم، وقاتهم، لكن العنب الرازقي أطيب، والعسل الدوعاني ألذ، ولحم الحنيذ أشهى، كانت صباحات ومساءات حين تعنّ الآن، تخرج آه ساخنة، مثل آه الشاعر غازي القصيبي: ألوم صنعاء يا بلقيس أم عَدَنا أم أمة ضيعت بالأمس يَزَنا ألوم صنعاء لو صنعاء تسمعني وساكني عدن لو أرهف الأذنا وصغت من وهج الأحلام لي مدناً واليوم لا وهجاً أرجو ولا مدنا