بعض الأمور تبدو لك منذ طرح دهشتها عليك، أنها عصّية على الفهم، تظل تبحث لها عن تفسير منطقي، فلا تجد غير مزيد من الأسئلة المتلاحقة، لذا تسميها الشعوب وتصفها بكلمة واحدة، هي الصدفة، فليلة الأمس حلمت بصديق قديم، فبدا لي أنه كما تركته قبل سنوات طوال يشتكي من المشكلات نفسها، ويردد الأحاديث نفسها، وأن أمنيته القديمة، ما زالت تتجدد في أن يحظى بفرصة عمل في الإمارات، ويئن من الأوجاع الوهمية نفسها، صحوت وتذكرت صديقة مشتركة معه، جمعتنا دروب الحياة، ثم فرّقتنا الظروف، وعشنا أجمل أيام لبنان، صباح هذا الْيَوْمَ عنّت عليّ معرفة أخبارها، وكيف هي الآن، وفِي أي بقعة من هذه الدنيا؟ نسيت حلم الصديق، وتذكرتها بشدة هذا الصباح، طقوس الماء، والإفطار التركي الشهي، وترتيب أولوياتي في التنقل الصعب في إسطنبول، أنساني شيئاً من تأملات الصباح الضرورية كصلاة، خرجت، وسألت السائق عن مكان يمكن أن أَجِد فيه مصفاة لماكينة القهوة، وهذا أمر من سهيلة، وطلبات «زيرانها»، لأنني لا أعرف ما هي هذه المصفاة، ولا أدري أصلاً أن تلك الآلة الرابضة في المطبخ تحتاج لمصفاة، فتعاملي معها من بعيد وبحذر، فقط تفرحني حين تسكت عن الصب، ويشير ضوؤها الأخضر إلى أن الكأس قد امتلأت، أوصلني السائق لمتجر، وقال انزل هنا، فمبتغاك إما هنا أو لا، قضيت ساعة أتفرج على محلات الملابس، كعادة طفولية، ونسيت المصفاة، حتى رأيت محلاً منزوياً، فدخلته، وأنا وجل من سؤال البائع، لأنه بالتأكيد سيسألني عن نوع ماكينة القهوة، ورقمها المصنعي المتسلسل، ساعتها الأبسط لي أن أخرج، وأقول لسهيلة، لم أَجِد ما طلبتِ، أقبل البائع عليّ ببشاشة، وأشعرني بأنه استحم صباح ذاك الْيَوْمَ، ظانّاً أنني ربما قادم لأشتري ثلاجة، أو أقلها مكيف طنّين ونصف، وليس مصفى ورق أبيض، وثمنه ليرات لا تصل للعشر، وهو أمر جعلني أقدم رجلاً وأؤخر رجلاً، خاصة أن المحل مكتظ بالنساء العارفات بلوازم المطبخ، منها الذي ينفع، ومنها الذي يشترينه، ولا يستعملنه إلا مرة واحدة، وفجأة ظهرت من تلك الكوكبة النسائية سيدة، وهي تقول بلهجتها اللبنانية: «مش معقول شو الدنيا إزغيره، شو هالصدفة الحلوة، وفِي تركيا»، فاعتقدت بداية أنها تريد أن تسألني شيئاً، أو تتحدث مع شخص آخر، فلما برّقت فيها جيداً، لم تسعني الفرحة، وألجمتني الدهشة، معقول هذا الذي يحدث! هي الصديقة نفسها التي تذكرتها هذا الصباح بشدة، وكنت أريد أن أعرف أين دنياها بعد سنوات من الفراق، لذا لا تسألوا الكتّاب كيف يكتبون، هي الحياة، وما تقدمه لنا من متناقضاتها، وأحداثها الكفيلة بكل شيء، والتي قد لا تحتاج إلا شراء مصفى بسيط لماكينة القهوة!