الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

جان جينيه: هنا.. لعب جريء يحطم هيبة السرد الروائيّ

جان جينيه: هنا.. لعب جريء يحطم هيبة السرد الروائيّ
4 أغسطس 2017 21:53
ترجمة حسّونة المصباحي في المجلّد الذي أصدرته دار «غاليمار» الفرنسيّة»، والذي يحوي جميع النصوص التي كتبها جان جينيه في فترة الصمت الطويلة، نص بعنوان: «العدّو المعلن عنه»، وفيه يقدّم جان جينيه، بأسلوبه البديع، جملة من الخواطر والآراء عن رائعة دستويفسكي «الإخوة كارامازوف». هنا ترجمة لهذا النص. الروائع الفنيّة والأدبيّة هي الشّكل الأعلى للفكر الإنساني، أو هي الشكل الأعلى الممنوح للفكر الإنساني، لنمرّ إلى دستويفسكي، أو بالأحرى إلى «الإخوة كارامازوف»، الرائعة الروائيّة، الكتاب العظيم، الاستقصاء الجريء للأرواح، إفراط الإفراطات جميعها! هذه الطريقة في المعاينة هي أيضا طريقتي. تنضاف إليها رغبة في الضحك أمام التضليل الأشدّ اصطناعيّة، والأشدّ واقعيّة، والذي يكوّن مصير هذا الكتاب. أخيراً استطاع دستويفسكي أن ينجح في أن يجعله عظيما: تهريج هائل ودنيء في نفس الوقت لأنه يُمارَس ضدّ كلّ ما يجعل منه روائيّا شغوفاً بفنه. تهريج يمارس ضده هو ذاته، وبوسائل طفوليّة وذكيّة يستعملها بنفس النيّة الخبيثة، والعنيدة للقديس بولص. لعبة الفن الجميلة من المحتمل أن يكون تولستوي قد رغب في كتابة روايته بشكل جديّ . غير أنه وهو يكتبها، لا بدّ أنه ابتسم ساخرا من دستويفسكي روائيّا. وأخيرا استسلم للابتهاج الكامل، وشرع يلعب لعبته الجميلة. وبما أنني أجهل أساليب البناء الروائيّ، فإنني لا أدري إلى حدّ الآن ما إذا كان الكاتب يبدأ الكتابة بالبداية أم بالنهاية. بخصوص «الإخوة كارازوف»، يمكن القول بإنه من المستحيل عليّ أن أميّز إن كان دستويفسكي قد بدأ بزيارة عائلة كارامازوف لـ «زوزين»، ولكن حتى لو كان عليّ أن أنتظر موت وتعفّن زوزين، فإن القلق يكون قد استبدّ بي منذ تلك اللحظة. الجميع ينتظرون معجزة، لكن على العكس من ذلك. وعوض أن تظلّ الجثّة سليمة، فإنها تبدأ في التعفّن في الحال. عندئذ، وبنوع من العناد اللذيذ، يشرع دستويفسكي في استعمال كلّ شيء بهدف بعث البلبلة والحيرة في نفوسنا. نحن ننتظر أن تكون جروشانكا دنيئة: عند كاترينا ايفانوفا، يرى إليوشا في الأول فتاة جميلة، ظاهريّا طيّبة وكريمة للغاية. وعند تهيّجه، يعاين فيها حنانا واعترافا بالجميل. إذ ذاك تقبّل كاترينا ايفانوفا يده. وفي الحين تضطرب جروشانكا فترفع يد كاترينا ايفانوفا بالقرب من فمها، ثمّ تنفجر ضاحكة، وتسبّ منافستها. وبسبب تلك الإهانة تطرد كاترينا جروشانكا. حين يدخل إليوشا إلى الدير، تزداد جثّة زوزين تعفّنا حتى أنه يضطرّ إلى فتح النوافذ. يخرج اليوشا، في الليل، يرتمي على الأرض، ويقبّلها. وهو يزعم أنه حصل له كشف ما في تلك اللحظة ذاتها. وهكذا يجد نفسه بثيابه، ثياب الراهب في شقّة جروشانكا. نحن نعلم أن ما سمح لـ «إليوشا» بالبقاء نقيّا هي ابتسامته في جميع المناسبات التي من المحتمل أن يصاب فيها واحد غيره بالبلبلة والاضطراب: وحتى وهو لا يزال راهبا، أرسلت إليه ليز رسالة، ابتسم وقبل بكلّ جديّة أن يصبح زوجها. بعد ذلك، حين يقول له الفتى كوليا: «إجمالا يا كارامازوف، أنا وأنت كل واحد منّا يحبّ الآخر»، يحمرّ وجه إليوشا، ثمّ يبتسم موافقا. إليوشا يبتسم وهو في العشرين من عمره. إنّ مزاجا كهذا يسلّي دستويفسكي الذي كان آنذاك في الستين من عمره. إن حركة أو أخرى يمكن أن تفسّر مثلما نحن نريد. القاضي في المحكمة يفسّر دوافع ديمتري، والمحامي بنفس الذّهن الثّاقب يحاول أن يعطيها معنى آخر. كلّ تصرّف له معنى إذن. ومعنى معاكس أيضا. ولأول مرّة، يبدو لي أن التفسير السيكولوجي يتحطّم بتفسير سيكولوجي آخر. إنّ التصرفات والنوايا التي تعوّدنا على أن نراها في الكتاب، أو في الحياة اليوميّة، كما لو أنّها مضرّة، تفضي في نهاية الأمر إلى الخلاص. أما تلك التي نعتقد أنها مفيدة، فإنها تنتهي دائما بكوارث مروّعة. إنّ كوليا يربّي كلبا يعتقد اليوشا أنه سمّمه أو قتله بدبّوس. وحين يمرض، لا يأمل إليوشا إلاّ في قدوم كوليا وعودة الكلب. وأخيرا يزور كوليا إليوشا مصحوبا بالكلب. والفرح كان قويّا للغاية حتى أن إليوشا يموت. ضدّ الاشتراكيّة والسيكولوجيا يبدي دستويفسكي شراسة تجاه الاشتراكية، وأيضا تجاه السيكولوجيا. ضدّ الاشتراكيّة هو عنيف (لنتذكر المشاهد التي يسخر فيها كوليا من الاشتراكية من خلال سلوكه). أمّا السيكولوجيا فيقوم دستويفسكي بهجوم عنيف ضدّها: عوض أن يقدّم تفسيرا واحدا جدّيّا للواقع، يعرض بالإضافة إلى ذلك تفسيرا مغايرا تماما للتفسير الأول. والنتيجة أننا عند القراءة، نعاين تغيّر الأحداث، والشخصيّات بحيث لا يبقى في النهاية غير خرق الضّماد. عندئذ يبدأ استبشارنا واستبشار الكاتب أيضا. بعد كلّ فصل، نحن نجد أنفسنا مثبتين أبصارنا على ما سوف يقع. وفي النهاية، لا يتبقّى شيء حقيقيّ. إذن هناك عند دستويفسكي جديد يبرز: هو يمزح ويهرّج. وهو يتسلّى بإعطاء نَفَس إيجابيّ للأحداث. لكن حين ينتبه بلا شكّ إلى أن هذا التفسير في الرواية حقيقيّ، يقترح للتوّ تفسيرا معاكسا للأول. دعابة في أعلى مستوى. لعب. لكنه لعب وقح وجريء لأنه يحطم هيبة السرد الروائيّ. هل قرأتُ «الإخوة كارامازوف» بطريقة سيّئة؟! لقد قرأتها كما لو أنني أقرأ مزحة أو دعابة. إنّ دستويسفكي حطّم كلّ ما كان حتّى تاريخ كتابة هذا الكتاب مجسّدا للرائعة الفنيّة باستحقاق. ويبدو لي بعد هذه القراءة أن كلّ رواية، وكلّ قصيدة، أو لوحة فنيّة، أو قطعة موسيقيّة لا تحطم نفسها، أعني بذلك تلك التي تبنى من دون أن يكون اللعب التدميري جزءا منه، هي مجرّد تضليل وخداع! إنّ العمل الفنيّ الذي يُبنى على أساس إثباتات لا يمكن دحضها أبداً هو خدعة تخفي شيئا أهمّ من ذلك. من المحتمل أن يكون فرانز هالز ضحك كثيرا مع لوحة «المحافظون والمحافظات»، وأن رامبراندت فعل الشيء ذاته مع لوحة «الخليعة اليهوديّة». وكذلك موتزارت وهو يعزف «قدّاس الموتى». كل شيء كان مباحا لهم. وكانوا أحرارا. بعد أن امتلك جميع هؤلاء الموهبة والعبقريّة، عرفوا كيف يتقنون فنّا آخر: الضحك على مواهبهم وعبقريّاتهم!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©